منذ سطوع نجم "الدراسات الثقافية"، في الجامعات البريطانية والأميركية إبان خمسينيات القرن الماضي، أخذ موضوع الأقليات والثقافات الفرعيّة شكلاً أكاديميًا له وزنه وسماته عبر التخصصية، وراح متخصصوه يأخذون من كل حقلٍ بطرف، خاصةً في ظل حيواتٍ اجتماعية سكنت التغيير واعتبرته شعار المرحلة ومرشدها. في أوروبا، دشنت ثورة الطلاب الفرنسية (1968) عهداً جديداً كان من بين أهدافه "قتل الآباء" بالمعنى الفرويدي، واستبدال قيادات جديدة بأخرى شكّل بقاؤها تكريساً هو، في العمق، ضد "الجوهر" الذي قامت عليه الحركات الطلابيّة، حتى إن نجاحات رجل كشارل ديجول، داخلياً، لم تحمه من دعاة التغيير وممارسيه. في الولايات المتحدة، نما مناخٌ احتجاجي لم تكن حرب فيتنام وحدها وقوده. أميركيون من أصول إفريقية، ويساريون ضاقوا ذرعاً بتوحش رأسمالية الطبقة الحاكمة في واشنطن، ونُسويات رأين في تحرر مجتمعاتٍ من الاستعمار آنذاك فرصة للمماثلة بين قمعين: أحدهما دولي، والآخر من "جنس كتب تاريخ انتصاراته وهمَّشَنا".

في ظروفٍ اجتماعية وتاريخية كهذه، قُرِئت قصيدة الشاعر الأميركي الأسمر لينجستون هيوز "أنا أُغني أميركا أيضاً". كتبَ هيوز أنه لطالما "أكلَ في المطبخ" وأن بعد سنوات من تناوله الغذاء هناك سيأتي الغد الذي سيأكل فيه إلى الطاولة، ولن يجرؤ أحد على إجلاسه في الهامش، بعد أن قويَ عوده، وأصبح هو أيضاً يُنشدُ أميركاه. ليس بعيداً عن هذا الدفق المعنوي، ظهرت حركات سمراء، تدافع عن بني جلدتها، منها ما أبرز حلولاً اندماجيّة لم ترَ في الإنسان الأبيض عدوًا، بل ضحيةَ نشأته، ومنها ما أخذ الانفصال وتمريغ "التعالي الأبيض" في التراب مأخذًا لا تستقيم الحياة بدونه.

ومن بين الأخيرة، شاعت "النمور السوداء" التي تأسست كردة فعل عسكرية على ما سمته "عنف الشرطة الأميركية". عرّفت نفسها كحزب يساري/ ماوي في بلادٍ كانت تخوض حربا باردة كادت، لمرات قليلة، أن تكون ساخنة مع الاتحاد السوفيتي ومعسكره، ومعارك على الأرض لصد اليساريين وحلفائهم عن حدود فيتنام الجنوبية.

حادثة دالاس التي وقعت في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، وشهدت مقتل خمسة من رجال الشرطة البيض على يد ميكا جونسون، جندي الاحتياط الأسمر في الجيش الأميركي، أعادت "النمور السوداء" إلى الواجهة وذكَّرت ببعض تصريحات دعاة "القومية السوداء" التي تجاوزت المطالبة بحقوق الأميركيين من أصول إفريقية إلى عنصرية معكوسة مشوبة بالعنف لا تميّز بين البيض وترى فيهم، صالحهم وطالحهم، هدفاً مشروعاً. المفارقة أن ما حدث في دالاس كان خاتمة عنيفة لمظاهرة سلمية نظمتها حركة تُدعى "حيوات السود ثمينة (Black Lives Matter)، لم يكن من بين شعاراتها تأبيد الانقسام أو الدفاع عن العنف المسلح، حتى وهي تقف على قدميها بعد الغبن الذي شعر به مؤسسوها إثر تبرئة الضابط الأبيض زميرمان من دم الفتى الأسمر ترايفون مارتن عام 2013.

حركة "حيوات السود ثمينة" انكبت على أسئلة التمثيل ومستواه والعنصرية وجذورها والتمركز الثقافي وخطورته، التي اهتمت بها الدراسات الثقافية، ولم تقتصر مآخذها على معاملة رجال الشرطة البيض للمتظاهرين أو المشتبه بهم من السُمر. فبعد إنشاء الحركة بوقت قصير انتقلت "حيوات السود ثمينة" إلى مساراتٍ وصلتها بشواغل أميركية عامة، مثل حال التعليم العام وأوضاع السجون والبطالة والفقر ونظام الرعاية الصحية، وأضحى وسمها التويتري، محط بدايتها، منصة لعرض أطياف واسعة من الرأي العام الأميركي لاهتماماتها.

وبين من يتخذ العنف الماديّ وسيلةً لتصفية حساباته مع الشرطة الأميركية التي يراها مفرطة في استخدام القوة مع المدنيين ذوي الأصل الإفريقي، العُزَّل من السلاح، وأولئك الذين ينتهجون طرائق سلميّة، لا يُجرِّمها القانون الأميركي، تطل الانتخابات الرئاسية برأسها لتضيف إلى الحساسيات العرقية بُعداً مُتجدداً لم يطوه انتخاب أوباما رئيساً عام 2009، ولا يُمكن للسباق الرئاسي بين كلينتون وترامب إلا أن يصيّره فارزًا بين مرشحة ديمقراطيّة تتفهم مطالب الناشطين الأقلويين، ومرشح جمهوري هو على النقيض من أي فكرة تُخرجه عن الصور النمطية التي دفعته، وتدفعه، لقولِ ما يجدر بمرشح رئاسي (رجل دولة؟) أن يربأ بنفسه عنه. وفي هذا ما يُبقي "مشكلة اللون" عقوداً أخرى في قرننا الحالي، بعد أن اعتبرها عالم الاجتماع ويليام دوبويس (1868-1963) "مشكلة القرن العشرين".