قليل، إن لم يكن نادرا أن توافينا سيدة بمذكرات رحلة لها إلى جنوب المملكة، بل ومن النادر أن تعتني سيدة بأدب الرحلة وتدون مشاهداتها.. وما كنت أعتقد ذلك إلى أن اطلعت على حلقة من سلسلة نشرتها عام 1982 السيدة عفت حمزة، في إحدى الصحف العربية التي كانت تصدر من لندن، لرحلة قامت بها من الطائف إلى أبها مرورا بالباحة وبلجرشي وبيشة للتفتيش على مدارس البنات في هذه المناطق، فتحسرت حينها على باقي الحلقات التي لم يساعدني الحظ على قراءتها.. إلى أن جمعتني الصدفة في إحدى مكتبات الكتاب المستعمل بكتاب لهذه الأديبة جمعت فيه كل حلقات الرحلة التي كانت قد نشرتها من قبل.. في كتاب متوسط الحجم عدد صفحاته 176، خال من الصور والخرائط إلا من خارطة واحدة لمسار الرحلة، لكننا نتفهم صعوبة مثل ذلك على سيدة قضت رحلتها التي تزيد على 700 كيلومتر.. ملتحفة بخمارها في زاوية من زوايا السيارة التي تستقلها!


متاعب في الطريق

تشكر السيدة عفت على مجرد تفكيرها في تدوين هذه الرحلة وتوثق فصولها، خاصة وهي تخوض تجربة جديدة عليها، وكان الطقس كما روت قاسيا عليها وعلى طفلها من حيث شدة الأمطار ووعورة الطريق وكم العمل الإداري الملقى على عاتقها. إلا أنها أجادت الوصف وإن كانت توجز فيما لا يمكن الإيجاز فيه. شعرت وأنا أقرأ هذه الرحلة أن الأماكن تترك انطباعات لدى زوارها وتأثيرا كبيرا.

تسرد السيدة تفاصيل رحلتها عبر هذه المناطق الجبلية الوعرة من خلال ما أسمتها مجازا سفينة الصحراء، وهي سيارة "الونيت الفورد"التي كانت سيدة زمانها في التنقل والترحال في تلكم الأزمنة بين مناطق المملكة. وسوف أفرد لاحقا حديثا خاصا عن هذه الوسيلة وما قال عنها الرحالة والزوار الذين وفدوا بها إلى أبها.


 أسلوب قصصي

تصف الكاتبة بإيجاز شديد مشاهداتها لبعض المناطق التي زارتها، فيما تبسط القول لما صادف رحلتهم من عناء ومشقة، فقد كان سردها لمشاهداتها أثناء الرحلة شحيحا ووصفها للأماكن قليلا جدا..! ومع ذلك فهناك محطات في السرد أسبغت علها صياغة أدبية بأسلوب قصصي راق.

 أخذت المفتشة التحضير العلمي للرحلة، حيث حاولت الاطلاع على مراجع ومعاجم تتعرف بها على الأراضي التي تنوي زيارتها أو العبور بها.. ثم قامت بمقابلات مع من تعتقد أن لديهن معلومات تفيد منها، وكان من بين هذه الشخصيات التي حرصت على مقابلتهن الكاتبة في الطائف حيث إقامتها الدائمة، سيدة كان لها مستقر في أبها قبل هذه الرحلة بنحو 45 عاما، وهي حرم عبدالله السويلم الذي كان قد شغل لبضعة أشهر منصب أمير أبها عام 1339. حيث تروي المؤلفة أن "أم مساعد" وصفت لها جمال الطبيعة وطيب الهواء في أبها بخيال، قالت عنه إنه خيال شاعر.. حيث وصفتها الكاتبة بأنها امرأة ذات شخصية متميزة، تتمتع بذكاء نادر وعقل واسع.. وقد مرت بأحداث خطيرة وطريفة في آن واحد!.. وتستطرد الكاتبة فتقول إن محدثتها أي "أم مساعد" طلبت منها أن تكتب لها مذكراتها في أبها، وقد وعدتها بذلك كما تقول خيرا. وليت أحفادها إن كانت السيدة عفت قد فعلت ذلك ودونت مذكراتها كما قالت، أن يخرجوا تلكم المذكرات، فمن المؤكد أنها ستضيف الكثير من المعرفة على تلكم الحقبة الزمنية المهمة.





 كرم الضيافة

 تكررت في سرد الرحلة، الكثير من الصور الوصفية البليغة التي كتبتها المؤلفة بمداد الحب والألفة التي ربطتها بتلكم الأماكن التي عبرتها وأهلها. فعن الظفير ـوهو ما يعرف الآن بالباحة ـ قالت: استفقت من تأملاتي وأنا أخزن أصوات طيور الغابة المغردة ذات الألوان الزاهية وهي تطير أمامنا وحولنا...غمرت جونا بشتى الأغاريد..مشكلة سيمفونية طبيعية مكتملة الأنغام. ولا تخفي أمنيتها بل وحسرتها على ما فاتها من التقاط للحصى الملون الذي رأته في "وادي العقيق" الذي كانت قد عبرته للتو وهي في طريقها إلى الظفير. شعرت وأنا أقرأ هذه الأمنية بأنني أمام مشهد لطفلة كبيرة تلتحف "مسفعها"حافية القدمين في بطحاء الوادي لتستقرئ جماليات الطبيعة وتلهو بمعطياتها الساحرة. تقول: جلسنا أمام مدرسة الظفير نطل على سحر المنطقة الخلاب، نشرب القهوة العربية ونتمتع بالنسيم العليل ومنظر الغيوم، وهي تتخلل فيما بيننا وتغمزنا ثم تسير.. فكأننا في طائرة بين السحب أو فوقها، لا بل فوق بساط الريح الأسطوري حيث نرى كل شيء لا يحجبنا عنه حاجب.  أما عن بلجرشي فتحدثت وأسهبت في الحديث عن الترحيب البالغ الذي قوبلت به هي وزوجها ومن معهم عند وصولهم إلى بلجرشي، ولا تخفي انبهارها بما أعد لهم من ولائم وما ذبح لهم من خراف، حتى إنها كان تجلس وحيدة مع طفلها على مائدة يتوسطها خروف. بينما هناك خروف ثان على مائدة الرجال. ولم يكتف أهل بلجرشي بذلك بل أحضرت نساء بلجرشي لهم الزاد والزواد وماء وهدايا وأنواعا من الحلوى للطفل.. فغادروا وبهم حسرة على فراق هذه البلدة الواعدة.

 بعد هذا الاستمتاع بجمال الظفير وبلجرشي وسهولة الوصول إليهما.. اعترض طريق الركب من بلجرشي إلى بيشة محطتهم الثالثة صعوبات وسيول ورمال متحركة، وأعتقد أن هذا الجزء من الطريق هو ما دفع بالكاتبة لتسمية كتابها بـ"امرأة في الصحراء العربية"، وكنت أتمنى أنها لو فكرت في عنوان آخر للكتاب يعكس صورة أجمل لما فيه من أدبيات ووصف للرحلة وجمال للبقاع التي زارتها!.


أم كلثوم والعواصف

اجتاحت عاصفة ممطرة طريق سفرهم وصادفتهم فيضانات أودية من أفحل أودية الجزيرة العربية المنحدرة من سلسلة الجبال الشاهقة، حتى إنها ومن يرافقها أحسوا بخطر الموت يسايرهم مع كل كيلومتر يقطعونه.. وعند وصولهم بيشة بعد رحلة مضنية كانت المدينة غارقة في بحر من المياه، وكان الناس كما تقول يبتهلون إلى الله أن يرفع عنهم، فقد كان المطر ينهمر دون هوادة.. حتى إنها قضت في بيشة وقتا أطول مما كان مقررا لها في جدول الرحلة. ومع أنها لم تتمكن من التجوال في المدينة بسبب الأمطار، فإنها أشادت بكرم مضيفاتها وتفانيهن في إيجاد سُبل الراحة والترفيه لها، حتى إنهن بعد انقشاع خطر السيول وتراجع منسوب المطر، أردن أن يمتعن ضيفتهن قليلا ويهيئن لها شيئا من الترفيه فأدرن لها على جهاز التسجيل أغنية "لام كلثوم"... وهذا يعني أن الأسرة التي استضافت السيدة تميل إلى الارستقراطية، حيث إن اقتناء جهاز تسجيل وسماع أم كلثوم يعد في حد ذاته حدثا نادر الحصول في ذلك الوقت.


وسط الكهف والوحوش

لم يكن الطريق من بيشة إلى أبها أقل صعوبة ولا مخاطر مما سبق، فقد كانت الأودية تفيض بالسيول، وكان من المستحيل تجاوزها، فما من وسيلة أمام السيارات القادمة إلى أبها أو المغادرة منها باتجاه بيشة والطائف ومن ثم جدة إلا الانتظار بالساعات، بل وربما بالأيام على ضفتي الأودية حتى تنزاح منها السيول! وهذا ما حصل لسيارة هذه السيدة، فاضطرتهم السيول لقضاء وقت داخل أحد الكهوف وهي متسلحة بمسدس زوجها وإلى جوارها طفلها، تقول إن الخوف قد انتابها من وحوش الأرض، خاصة عندما تذكرت ما جاء في معجم البلدان بأن في بيشة مأسدة وهوام كثيرة من عقارب وأفاعٍ!.

 وتسترسل في سرد فصول المآسي التي صادفتهم وهم يعبرون الأودية حتى إن السيل غمر سيارتهم مما أنساها كل شيء إلا طفلها.. وتروي من بين هذه المآسي قصة شاحنة غمرها السيل في بطن الوادي وهي محملة بأكياس السكر متوجهة بها إلى أبها!

 بعد طول عناء وملازمة شبح الموت لهم وصلت وزوجها وطفلها ومن معهم إلى أبها المحطة قبل الأخير في رحلتهم.. وكانت السيدة عفت منهكة القوى متذمرة من كل شيء، وبعد هذه الرحلة الشاقة.. تقول حاول زوجها أن يخفف عنها وعثاء السفر فقال لها: انظري ما أجمل مدينة أبها وحقولها الخضراء، انظري أهلها وقد استيقظوا باكرا وهم منتشرون في حقولهم، انظري النساء يساعدن الرجال في أعمالهم. ألا ترين قبعاتهم؟ أليست صورة عن قبعات المكسيك الواسعة، المصنوعة من القش؟ ألا تشعرين بطيب الهواء وجمال الأجواء؟ وتنساب السيارة، عابرة شوارع المدينة وأزقتها الضيقة في طريقهم إلى منزل المسؤول عن تعليم البنات في أبها.. وزوجها مواصلا وصف المدينة بقوله عجيبة بيوت أبها، إنها ذات طوابق متعددة، ونوافذ ضيقة، لكن الغرابة تكمن في الرقائق والشرائح الحجرية المائلة التي تصطف على الجدران بشكل منظم. أما عن منازل أبها من الداخل فتقول السيدة عفت: إن الجدران قد طُليت بألوان زاهية كثيرة ـ تعني القط العسيري ـ وفرشت الأرض ببساط واسع ملون، وقد صُفَّت أرفف سفلية قريبة من الأرض عليها قدور وطاسات ملونة ومرتبة بانتظام الأكبر فالأكبر. تتبعها أباريق مصفوفة. كل ذلك على جدران الغرفة الأربعة، بينما صفت أسفل الصف السفلي وسائد بيضاء مطرزة بألوان زاهية أيضا. ثم تحدثت وأسهبت في الحديث عن فراشتي المدرسة اللتين لا تفارقهما الابتسامة وكنا يتسابقان على خدمتها وتقديم واجب الضيافة لها.


 الأمطار تهدم مدرسة

بعدما انتهت السيدة عفت من "التفتيش" على مدرسة أبها، جاء التوجيه بعدم السفر إلى النماص لأن المدرسة هناك تهدمت بسبب الأمطار، فطلبت هي وزوجها وطفلهما، تأمين عودتهم عن طريق الجو. وهنا تروي حال رحلتها بقولها: ظننت العودة بالطائرة أمرا ميسورا كشربة ماء. وتسترسل في الوصف حيث تأخر وصول الطائرة التي ستقلهم لبضع ساعات وهم في العراء فلا توجد صالة للمسافرين في المطار ولا مبان! ولكن؟ تقول: رأيت عمال المطار يضعون على باب الطائرة سلالم مسطحة خالية من الدرج! ليندفع من على هذه السلالم، رجل بيده عنان تتبعه فرس ثم تلتها فرس أخرى فاخرة.. وهذا يعني أن الركاب القادمين على هذه الرحلة كلهم من الأفراس وساستها، وأن الطائرة خالية من المقاعد عدى مقعدين في مقدمتها.

بقي لي أن أقول إن هذا السفر والعناء والتعب كان من أجل التفتيش على أربع مدارس، الأولى في الظفير ولم يكن بها إلا صف دراسي واحد. ومدرسة بلجرشي وبها مرحلتان دراسيتان ابتدائي وإعدادي، ومدرسة واحدة في بيشة، وكان أكبر المدارس التي زارتها المفتشة مدرسة أبها التي كانت مكونة من ثلاث مراحل الابتدائية والإعدادية ودار المعلمات "صف واحد فقط".

وختاما، فإنه ومع القيمة الأدبية والتاريخية لهذه الرحلة، فقد كانت الكاتبة متحفظة على ذكر الأسماء الصريحة لمن التقت بهم من رجال ونساء ولو أنها فعلت لكان ذلك سيضيف قيمة علمية وتاريخية وحتى إدارية أكثر على هذه الرحلة!.