(ولَيْلَةً هَوَّمْنَا علي العِيس أرْسَلَتْ
بَطْيفِ خَيَالٍ يُشْبِهُ الحقَّ باطِلُهْ
وكَمْ مِن يَدٍ لليلِ عِنْدي حَمِيدَةٍ
ولِلصُبح مِن خَطْبٍ تُذَمُّ غَوائِلُهْ
البحتري في طيف الخيال)
نكتب فنحن نعبر عن قلق ما يسكننا ويحرض الأصابع التي تمسك بالقلم أو تنقر على لوحة المفاتيح.. قلت لها: سيدتي الكتابة امنحينا شيئا من غبار الأساطير وسحر الليالي المقمرة المسكونة بالحكايات التي تغزل أرواح السامعين لنبرات صوت الحكواتي.
فأخذتني للمدينة التي يسكنها الأشباح والحكايات التي لم تعد تجد راوية انطفأت جذوة الحياة مع آخر رغيف خبز وآخر جرعة ماء ابتاعها أب ليسقي ابنه قبل أن يلفظ آخر أنفاس الحياة... جفت دالية العنب وتوشحت المدينة بأوشحة الغياب!
بقي كتاب مفتوح على هوامشه سجل صاحبه تواريخ صمود المكان والإنسان، قبل أن يرحل مع الراحلين ليترك للكتابة جرحا مفتوحا.
وفي المدينة الأخرى التي تبيع الكتب على أرصفة الشوارع، بائع كتب عجوز يعيد ترتيب كتبه التي قلّ من يشتريها بعد رحيل السياح وحضور ألعاب الصوت والضوء التقنية، لكن زائره الكهل لا يزال يحضر إليه كل أسبوع مرة يأخذ بعض الكتب الجيدة ربما ليبقي على استمرار وجود البائع بما يتيسر من مال وآمال أو ليستبقي من الماضي شيئا.. شيئا من ألقه. كان الكهل في زمن اعتنى بالكلمة يعمل موظفا في الدولة، كما كان كاتبا في إحدى المجلات الأدبية التي أغلقت أبوابها بعد أن أخفقت في دفع أجور الكتاب!
ما زالت رائحة الورق الحار المطرز بالحبر الأسود تستفز حبه وتثير شجنه، وذكريات المساجلات والمطارحات والصراعات وأدب الإخوانيات في الرسائل تحتل أجمل مساحات الذاكرة، وتستدعي ابتسامة قد يتبعها اجترار تساؤل عن مكان رفيق أو ترحم على فقد صديق.
يوما قال الشيخ البائع للكهل الكاتب: (الله يرحم) أيام كان الشارع لا يهدأ، وكان الفخر للحرف والقلم والحبر! فأجابه الكاتب: أول ضحايا الحروب الكلمات والحروف، وأول ضحايا الخوف الآمنون لأفكار السلام والإنسانية التي يعبث بها القتلة!
في مقهى المدينة الثالثة التي تبيع الكلام مكتوبا ومنطوقا.. كان النادل يطوف بأكواب الشاي وكأنه يوزع الكلام على الأفواه التي تجيد الثرثرة في كل شيء.. شوارعها تاريخ ومقاهيها أدباء!
هذه المدينة علمت المدن الكلام ونسيت كيف كانت تفعل ذلك وهي تبحث عنه وعنها!
المدينة الرابعة مدينة افتراضية موغلة في الخيال اختارت أزمنة تاريخية لتعيش فيها، وقسمت أحياءها إلى حي تركي ينتظر أهله الفرمانات العظيمة من السلطان ولا سلطان!
وحي سكنته رفاهية الثراء متجاوزة عن الملاحقين للأثرياء بنسخ مقلدة لطبق الأصل!
ونصف المدينة يتفق ويختلف على تقاسم الولاء الرياضي حتى أصبح للكرة من يفتي بأن فريقه على صواب وأن أهداف غيره تسلل!
يوما سار الجاحظ بصحبة امرئ القيس والخنساء وابن بطوطة وزرياب في أرجائها والتقوا بأحد المشتغلين بالثقافة فيها ليسألوه ماذا حل بالعرب بعدهم؟
بدأت الخنساء وسألت هذا المثقف أين يمكنها أن تجد امرأة مثلها اليوم يمرَّ عليها ما مرَّ على الخنساء من مرارة وقبلها خسارة زوجها ماله وقبلها قصتها مع الخاطب العجوز الذي رفضته؟!
اعتصر الرجل ذاكرته ولم يجد إلا أن يخبرها بأن الشعر لم يعد للنساء كما كان في عهدها، وأن الرجل العربي إن قدمت المرأة قصيدة لا يقدر أن يقول لها ما قيل لك: فلا (هيه يا خناس) وليست خناس اليوم تقارب الأعشى وتتفوق على حسان أو تسير تفتأ تذكر أخاها!
المرأة في هذه المدينة انشغلت ببريق الحياة عن الاستمتاع بجوهرها لتنسى كيف كانت جدتها الخنساء تحيي جمالها بالشعر وهي تتلظى بجمر الحزن.
وسأل امرؤ القيس عن شاعر يكتب مثله، فأخبروه عن شعراء في مدينة قصية يتنزل فيها الشعر كما ينبع ماء الجمال من جوفها!
أما المدن الكبيرة فبين شاعر يشتري قصائد غيره الجميلة وآخر يبيع أحزانه بثمن بخس دراهم، ولغة الشعر تحولت عند أهل هذا الحي من أحياء العرب لمقاربة للجمال بكلمات ككلمات الشعر المنهمرة لكنها بلا عواطف، فماتت أغنياته قبل أن يعرف الناس اسمها!
في مدينة الخيال تنبت أشجار غريبة لم تعهدها أرض العرب وتستنزف مياههم القليلة لكنها تجمل حياتهم كما الورود في باقاتها المعدة للبيع ولتقديم رسالة للفرح.
سأل ابن بطوطة عن المدن وعرف أن عالم اليوم أصبح مدينة حين تسير في شوارعها تدهش أن بعض أهلها لا تزال له أصنامه التي يصنعها ويأكلها، لكن أهلها تغلب عليهم الطيبة والبحث عن بهجة الحياة ويغلقون أبوابهم لكنهم يفتحون نوافذهم للضوء وقلوبهم للحياة.
أثناء الحوار سمع زرياب صوت عزف قادم من مدينة في الشرق وسأل هل أضفتم للعود وترا آخر؟! ولم يجد جوابا.