لا شك في أن الممانعة والتشدد كانا ولا يزالان المعوق الأكبر للتنمية، وهما من يقف حجر عثرة في سبيل الانخراط في عالم المعاصرة والنهضة التي يدفع باتجاهها دين الإسلام ويحث عليها. نرى منظومة العالم المتحضر تتقدم بخطى حثيثة نحو النمو والإنتاج والابتكار، وتقدم لقاطني الأرض كل جديد ومفيد لينعم الإنسان العصري بحياة رغيدة في بحبوحة من العيش الكريم الشامل في شتى مناحي الحياة. وعوضاً عن مشاركتنا للعالم المعاصر في الابتكار العلمي والبحوث النافعة أو بتقدير أعمالهم الجليلة، على أقل تقدير، نجد أن التيار المتشدد يصر على ترسيخ مفهوم ثقافة الكراهية ومعاداة الآخر المخالف عقدياً، ويغذي العقول بمبدأ الولاء والبراء -المغالط فيه- مما يفسد فكر الناشئة ويدفعهم لأن يكونوا عناصر ناقمة، وبالتالي فهي جاهزة تنتظر من يأخذ بيدها نحو التطرف والإرهاب.
حينما تشتد ملاحم الصراع في كوكب المعمورة، نجد بعض شبابنا -مع الأسف- أول القادمين الملبين بحمد القتال ونعمة الاقتتال، مجندين مدججين بمختلف الفئات العمرية والكفاءات المتنوعة من مقاتلين وقياديين، كوادر تقنية وعسكرية، دعاة ومنظرين وأساتذة علوم شرعية.. من الذي هيّأ عقول هؤلاء الشباب وجعلهم فريسة سائغة للغلو وحطباً لنار الاقتتال سوى ذلك التيار المغالي الذي قدم للعالم نماذج زلزلت الأرض وأطّت السماء وحُق لها أن تئط جراء أفعالهم الجهنمية، بدءاً من جهيمان إلى بن لادن وما تلاهما من أسماء الأشرار التي أضحت أعلاماً على رأسها نار، تُذكر فلا تُشكر.
هذا التيار مارس ممانعاته العديدة على مر التاريخ تجاه قضايا التنمية والتعليم والاقتصاد والفنون منذ نشوء الدولة السعودية، مما تسبب في إعاقة العديد من المشاريع الحيوية التي تدخل في جوهر الحراك المجتمعي للّحاق بركب التنمية والحضارة العالمية. غير أن هناك دروساً مستقاة على مر السنين واختلاف الأحداث جعلت من صانع القرار يشرع في اتخاذ قراراته الداعمة للتنمية وإن كانت مخالفة لتوجه أولئك الممانعين.
لقد استوعب الجميع أن التغاضي عن تيار التخلف يكرس التخلف، ويرفع من سقف المطالب التي يجترها من عادات وتقاليد أُلبست لبوس الدين، وقد تكون من المسائل الخلافية السائغ فيها الاختلاف فتمت ترقيتها لدرجة القول الواحد بلا خلاف.
فترات طويلة والمجتمع يصغي إلى التيار المتشدد ويلبي مطالبه فماذا كانت النتيجة؟ فرضوا هيمنتهم على الناس، ووظفوا الملتقيات الاجتماعية لفكرهم حتى أضحت مناسبات الفرح أقرب لمراسم العزاء، وتحولت اللقاءات الاجتماعية إلى خطبة جمعة لا تجرؤ خلالها على التحدث إلى من هو بجوارك.
لقد شهدت بلادنا والعالم بأسره من أفعال المتطرفين الجدد ومطالبهم؛ ما جعل جهيمان أقل دموية منهم رغم ما فعله بعباد الله في بيت الله!
إن الحل يكمن في عدم الالتفات لممانعات التشدد وأهله والتوقف عن الرضوخ لمطالبهم، وتغليب الوسطية السمحة. لقد فعل ذلك قادة هذه الدولة حين أرسوا دعائم التعليم للبنين والبنات، وفتحوا قنوات الإعلام، ودعموا نهضة البلد رغم ما حصل من اعتراضات واسعة حتى في أبسط الأمور، كالبرقية والهاتف والسيارة.
يقول حافظ وهبة مستشار الملك عبدالعزيز في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين»:
"وقد أخبرني جلالة الملك في شعبان سنة 1351هـ (ديسمبر1932م) أثناء زيارتي للرياض أن بعض رجال الدين حضروا عنده سنة 1931م لمّا علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد. فقالوا له: "يا طويل العمر، لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله إلى بلادنا وإن «فلبي» سيجر علينا المصائب، ونخشى أن يسلم بلادنا للإنجليز، فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست -ولله الحمد- بضعيف العقل، أو قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين، وما «فلبي» إلا تاجر، وكان وسيطا في هذه الصفقة، وإن بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحد.. إخواني المشايخ، أنتم الآن فوق رأسي، تماسكوا بعضكم ببعض لا تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم، وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية. مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد، لظهور فائدتهما لي ولبلادي، وليس هنالك دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع من إحداث اللاسلكي والسيارات. وعندما وضعت الآلة اللاسلكية في الرياض واستعملت، كان الناس يغري بعضهم بعضا بأن إنشاء هذه المحطة هو الحد بين الخير والشر. وكان العلماء يرسلون من يأتمنونهم لزيارة المحطة ورؤية الشياطين والذبائح تقدم لهم، فلم يجدوا شيئا?".?
وكان الناس وقتها يظنون أن تلك التقنيات والابتكارات من أعمال الجن ولا تعمل إلا عن طريق فعل الشركيات كالذبح تقرباً للجن?. وفي هذا يقول أيضا حافظ وهبة في مذكراته السابقة?:?
"أوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1346هـ (1928م) مع عالم كبير من علماء نجد للتفتيش الإداري والديني، فجرى ذكر التلغراف اللاسلكي، وما يتصل به من المستحدثات، فقال الشيخ: لا شك أن هذه الأشياء ناشئة من استخدام الجن، وقد أخبرني ثقة أن التلغراف اللاسلكي لا يتحرك إلا بعد أن تذبح عنده ذبيحة، ويذكر عليها اسم الشيطان. ثم أخذ يذكر لي بعض القصص عن استخدام بني آدم للشيطان، ولم يكن لشرحي لنظرية التلغراف اللاسلكي وتاريخ استكشافه نصيب من إقناع الشيخ، فلم أجد أي فائدة من وراء البحث.. فسكت على مضض".
الرؤية السعودية الجديدة تتطلب الأريحية في اتخاذ القرار للمصلحة العامة، دون النظر لتأثيرات العقليات المكبلة لنهضة الوطن.