رواية من مئة وعشر صفحات، نقلها للعربية معن عقل، وصدرت عن المركز الثقافي العربي 2013، اسمها حفلة التفاهة، للروائي التشيكي ميلان كونديرا، "صاحب الأعمال الكبيرة: الحياة في مكان آخر، كائن لا تحتمل خفته، المزحة، الجهل، الخلود.. الخ"، وهي بالفعل حفلة يتوفر بها، على صغرها، فزعٌ مهول حيال ما وصلت إليه البشرية من النزق والعدمية والطغيان، وجنون الغرائز، السرّة في بطون النساء، واختلال معنى العالم، مدى زيفه واضمحلاله.
كونديرا العجوز، وقد جاوز الثمانين عاما، استجمع غضبه وسخريته، ليخبر في هذا الورق القليل، مصحوبا بكانط وشوبنهاور؛ كم نحن لا نعرف شيئا عما يحدث في هذا الزمن، زمن ما بعد المزاح.. "أدركنا أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الإمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد".
كونديرا يحطم أنوف التماثيل الكبيرة، يترك لشخصياته أن تتبول عليها، يمرّغ الشخصيات التاريخية، ينقضّ على ستالين ويجعل منه ومن تاريخيته مادة مخزية ومثيرة للسخرية.. "كان لكل عضو من فريق ستالين مبولته الخاصة التي أبدعها، ووقع عليها فنان مختلف، أما ستالين فلم تكن لديه مبولة. أين كان يبول ستالين!"، ستالين الذي خرج في رحلة صيد، ووجد أربعة وعشرين طيرا من الحجل وقد قنصها، لكن لم يكن في بندقيته سوى اثنتين وعشرين رصاصة، فرجع كي يعود بالطلقتين، وفوجئ أن الطيرين الباقيين ما زالا بانتظاره. هل هي رواية مبهجة؟ هي أكثر من ذلك، إنها تعلمك شيئا أعمق من ملاحظة التفاهة، ومراقبة السلوك البشري، تعلمك الحذر، وإن كنت حذرا فهي تزيدك ارتيابا، حيث كل شيء وكل أحد لا بد أن يخضع لاختبار قاس وساخر معا، كي يكون جديرا بالارتياح، فهذه الكائنات الغريبة التي تسمى بشرا، تتقلب في عالم ضخم من التفاهات المركبة والفوضى والقبح، تنجزها المؤسسات والبلدان والتاريخ والطباع البشرية الراهنة، وكلاهما يعيد إنتاج الآخر.. "انظر إليهم جميعا، انظر، نصف هؤلاء الذين تراهم، على الأقل قبيحون، أن يكون المرء قبيحا، هل هذا أيضا جزء من حقوق الإنسان؟... لم تختر لون عينيك، ولا القرن الذي تحيا فيه، ولا بلدك، ولا أمك، ولا أي شيء مهم! الحقوق التي يمكن أن يحصل عليها إنسان، لا تتعلق إلا بتفاهات، وليس ثمة سبب للصراع حولها، أو كتابة إعلانات شهيرة عنها".
حسنا، هذه الرواية حفلة حقيقية وملهمة، وتستحق الحضور. اقرؤوها.