طامي الشمراني
إنّه سرّ الوجود، ورمز استمرار الحياة، فمن دون الحبّ لا يكون للحياة طعم، فالحبّ كلمة من حرفين يُشكلان بالتقائهما حال شعورية وقيمة وجودية تمنح البشر السَّعادة وتُحقق للكائن البشري إحساس الرضى عن الذات الذي ينقلب إلى شعور بالرضى عن الآخر، لفظة الحب تتألف من حرفين ولكن لهذين الحرفين دلالات متشعّبة، وحقاً لا يستشعرها إلّا من عرف معناها وهو يعيش حالة حبٍّ تُعبّر عن مشاعر فيّاضة وأحاسيس مرهفة تنمّ عن حالة نبيلة ترتقي بالحسّ الجمالي عند الإنسان وترتقي به سلوكاً وانفعالا، فيرى من خلال الحب كل الكون جميلاً تتراقص فيه الأشجار وتصفّق الطبيعة، وهي تستمع لنشيد جدول يتدّفق عازفاً أجمل سمفونية للحياة، وقد عبّر الشاعر إيليا أبو ماضي عن حالة الحب بقوله:
أبْغِضْ فيغدو الكون سجناً مظلماً
أحْبِبْ فيمسي الكوخ قصراً نيّرا
نعم إنه الحبّ الذي يوسّع دوائر الذات الضيقة لتشمل مدار الكون كله، ولعلّ في دلالة هذين الحرفين ما يؤكد حقيقة الكلمة المشكلة لهما، فالحرف الأول الحاء هو صوت حلقي يشير إلى حالة داخلية، فكأنما هو بداية الحبّ وشرارته الأولى والذي يعود إلى مكمنه اللاشعور ومصدره وهو القلب، فندرك بالإحساس ولكننا نجهل بالحقيقة السر الخفي الكامن خلف شعورنا بالحب تجاه شخص أو منظر أو حالة ما.
والحرف الثاني هو الباء وهو حرف شفوي يخرج من التصاق الشفتين وهو يجسّد المظهر الحسي للكلمة بانتقالها من مجرد إلى محسوس ومن حالة عاطفية إلى تعبير لفظيّ، وسرعان ما يتبدّى ذلك في فعل حركي أو سلوك إيمائي مؤكد، ولعلّ للعيون في هذا المجال الدور الرئيسي في توجيه السلوك أو الإيحاء بإشارات الحبّ. فالعين هي المحرك الأساسي في توجيه القلب نحو ما يخفق له وما تهفو إليه النفس، فالعين تُقبل على ما يشعر الإنسان بالرضى الداخلي، وتشيح عما لا ترغب فيه، يقول الشاعر في العيون:
وتعطّلت لغة الكلام وخاطبَتْ
عينيّ في لغة الهوى عيناكِ
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن المشاعر متبدلة متغيرة، فهي مشروطة بظرفها وحالات وجودها، فقد نحب اليوم ما نكره غداً، وقد يكون الخلاف سبباً في الحبّ، وقد أوردت كتب التراث أن ولادة الحب بين جميل وبثينة كانت نتيجة خلاف بينهما، وقد عبر الشاعر جميل عن ذلك بقوله:
وأول ما قاد الموّدة بيننا
بوادي بغيضٍ يا بثينُ سبابُ
ولعلّه من الطرافة أن يكون السباب والشتائم بداية حبٍّ أصبح مضرب المثل في قصص الحب وأيام العشّاق. فالحب وحده هو البوصلة التي توجه المرء، ليجد الإنسان نفسه في الحبّ فيلسوف كلمة، وشاعر إحساس، فيسمع نبض قلبه للدنيا التي تتسع مداراتها أمامه، وما أحوجنا اليوم ونحن نعيش في ظل عالم تموج فيه رياح الحقد وتعصف به أعاصير الكراهية أن نحصّنَ النفوس بالمحبة ونعصم القلوب بالرغبة بالآخر بعيداً عن الإلغاء والتهميش، فنقبل على الآخرين بابتسامة قلب وإشراقة وجه وقد دعانا الإسلام إلى الحبّ، فابتسامتك في وجه أخيكَ صدقة. فلنتصدق جميعاً بأجمل ما تكون الصدقة، ابتسامة تزرع الحبّ في القلوب وتنشر السعادة بين الناس.
فالحب وحده المصباح الذي يشعُّ بنوره، فينشر الجمال إشعاعات براقةً تنعكس ظلالها على الآخرين فهو حالة فردية وحاجة اجتماعية لا بُدَّ منها، لأنه مركب النجاة. فالحب هو المارد الذي يستطيع أن يُهذّب النفوس ويرتقي بالمشاعر.