وسأبدأ بالتأكيد على أن فكرة مقالي لهذا الصباح قد لا تكتمل لدى القارئ العزيز الذي لم يقرأ ما كتبته بالأمس. انتهيت البارحة إلى السؤال: هل يمكن لوطني استكمال بناء رؤية تنموية مستقبلية وهو يعيش ويتجاور في قلب هذه الخريطة الملتهبة؟ والجواب يكمن في أنموذج وأمثلة المقاربات مع الغير، وهنا سنحصل على (نعم) مشروطة ضيقة و(لا) في بقية الطيف الأممي الواسع. هنا الأمثلة:
مطلع تسعينات القرن الماضي وجدت أوروبا نفسها أمام مأزق (البلقان) وحربها الضروس فيما يعرف لدينا بحرب (البوسنة)، فدخلت بأكملها إلى مرحلة الإنعاش الاقتصادي وكادت أن تتجمد على مستوى الفعل السياسي لخمس سنوات متتالية. وجدت أوروبا نفسها مثل الماكينة الهائلة التي تكاد أن تتعطل تحت فوضى مسمار شارد في قلب هذه الماكينة. لكن العقل الأوروبي سرعان ما عالج الخلل فتوحد لإنهاء الحرب، ومن ثم إعادة توليد واستيعاب دول البلقان الجديدة، ومن ثم تأهيلها للدخول في منظومة الاتحاد الأوروبي ولو حتى بغض البصر عن الشروط الصعبة لاتفاقية لشبونة وبرلمان بروكسل. اكتشفت أوروبا أن المجتمع الآمن والاقتصاد القوي لا يمكن لهما الاستقرار وفي خاصرتها مسمار أو حتى دبوس. هذا المثال هو نفس حالتنا بالضبط.
سيقول أحدكم، ولكن ماذا عن مثال كوريا الجنوبية مع جارتها الشمالية بذات العرق والاسم واللغة؟ والجواب: إن (سول) وبدعم حلفائها الغربيين تسعى جاهدة لإبقاء (بيونج يانج) كما هي الآن بدلا من أن تتحول الأخيرة إلى شيء يشبه صنعاء أو دمشق: شعوب ثائرة وأنظمة قمعية لم تسقط، وهذا ما قاله لها جون كيري بالضبط في زيارته الأخيرة مطلع الربيع الجاري "لو تحولت (بيونج يانج) إلى دمشق آسيا لوجدت كوريا الجنوبية نفسها أمام 10 ملايين نازح شمالي ولاضطرت لإنفاق ربع دخلها على ميزانية الأمن والدفاع". ومرة أخرى: هذا المثال يشبه حالنا الآن بالضبط.
نحن اليوم، في الخلاصة، نتحدث عن السعودية 2030 وفق رؤية طموحة تتوفر لديها كل الإمكانات الهائلة للنجاح، ولكن بمقومات وظروف الداخل الآمن المستقر. لكن حقائق الجغرافيا تبرهنها صيرورة التاريخ. نحن عالقون في ظروف الجوار الساخنة وفي أمراضه المزمنة التي تحتاج على الأقل عقدين من الزمن للتعافي، وهذا إذا ما افترضنا أن هذا الجوار يبدأ ومن اليوم مساره الصحيح. نحن بالضبط تماما، نعيش معهم مثل الشقيق السليم الذي يعالج أشقاءه الآخرين في غرفة واحدة من أمراض الجدري والطاعون، ولهذا يجد كل تفاصيل يومه مشلولة بهذا القلق الاستثنائي، وهذا هو جوابي عن السؤال الأول في رأس هذا المقال.