جغرافيا الفكر هي المساحات والحدود التي يتحرك فيها الفكر. الأنطولوجيا في الفلسفة تعني البحث في طبيعة الوجود والموجودات كأن نقول إن الموجودات إما مادية وإما روحية. تصور أنطولوجي آخر يقول إنه لا وجود إلا للماديات بينما تصور آخر يقول إن كل الوجود روحي أو يضيف "طبيعة" أخرى للموجودات. ما أريد الحديث عنه هنا هو انطولوجيا الفكر في ما يخص سؤال الهويات وما يترتب عليه من نتائج أخلاقية واجتماعية وسياسية. جغرافيا الفكر هنا تعني تصورنا للجغرافيا البشرية وتحديد الجماعات داخلها. لكي أوضح هذه الفكرة سأستعرض عددا من الخرائط البشرية: من الخرائط القديمة تقسيم العالم إلى شرق وغرب. هذه التقسيمة الجغرافية تحيل على سلسلة من التصورات الفكرية والثقافية عن الشرقيين والغربيين. على سبيل المثال الشرقيون روحانيون والغربيون عقلانيون وماديون. بناء على هذا نجد تصورات للفن الشرقي والفن الغربي/ التفكير الشرقي والتفكير الغربي. الهويات التي تنتج هنا هي: نحن الشرقيون هم الغربيون.

هنا تولد أسئلة كثيرة من نوع كيف نتعامل نحن الشرقيين معهم (الغربيين)؟ بالطبع تولد إجابات متنوعة: صراعية تجعل العلاقة صراعا بين الشرق والغرب، تواصلية تجعل العلاقة تعاونا وتواصلا بين الشرق والغرب، لكن في الأخير الأطروحة الأساسية التي تقبلها الجميع هنا هي أن العالم/البشر مقسوم للشرق والغرب، وأن هذه هي القسمة المناسبة لبناء تصوراتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية عليها.

خريطة أخرى مهمة هي الخريطة التي تقسم العالم إلى جماعتين: جماعة المؤمنين وجماعة الكفار. في الحالة الإسلامية تصبح الصورة "مسلمون وكفار" وما ينتج عنها من تصورات مثل دار الإسلام ودار الكفر. هذه الخريطة هي أحد أهم الخرائط الدينية للعالم والبشر. يندرج تحت هذه الخريطة عدد هائل من النتائج الدينية والأخلاقية تبعا لتقسيمة نحن (المسلمون) وهم (الكفار). المسلم هنا له حقوق وواجبات دقيقة ومختلفة بشكل واضح عن حقوق وواجبات الكافر. كذلك في دار الإسلام يصبح المسلم في أرضه وبين أهله بينما يتحول في الجغرافيا التي يطلق عليها دار الكفر إلى زائر أو عابر أو أسير أو منفي لكنه في كل الأحوال ليس بين أهله وليس على أرضه. سؤال العلاقة بين المسلمين والكفار ينتج طبيعيا عن هذه التقسيمة وبالطبع نجد إجابات متنوعة وإن كانت بحضور وتأثير متفاوت: الإجابة الصراعية التي ترى أن الصراع بين المسلمين والكفار هو سنّة الوجود والخيار الوحيد. في المقابل نجد أطروحات تخفف من حدة هذه النظرة الصراعية وتقدم تصورات أكثر تسامحا وحرصا على السلام والتعاون. في الأخير كل هذه التصورات تعتقد أن هذه الجغرافيا للعالم (مسلمون/كفار) هي الجغرافيا المناسبة لتصور العالم والتعامل معه.

خريطة أخرى تقوم بتقسيم العالم إلى عرب وغير عرب. هذه الخريطة مثال على الخرائط العرقية/اللغوية/الثقافية للعالم. كالخرائط السابقة هذه الخريطة يترتب عليها تصورات فكرية وسياسية وحقوقية مهمة. العالم هنا يتكون من العالم العربي والعالم غير العربي. العرب هنا يتحولون لجماعة واحدة لها أهداف ومصالح مشتركة في مقابل جماعات كثيرة يمكن جمعها في إطار واحد وهو إطار غير العرب. يمكن ضرب أمثلة على النتائج السياسية لهذه التصورات أحزاب مثل البعث بقسميه السوري والعراقي والناصرية في مصر والقذافية في ليبيا والقومية في اليمن. على المستوى الفكري نجد تصورات مثل العقل العربي أو الفكر العربي. كغيرها من الخرائط السابقة واجهت هذه التيارات سؤال العلاقة بين العرب وغير العرب وانقسمت إلى تيارات صراعية غالبة وتيارات تعاونية أقل حضورا، لكن الجميع اتفقوا على أن هذه الخريطة للعالم عرب/غير عرب هي الخريطة المناسبة لتصور العالم والتعامل معه.

الخريطة الرابعة يمكن تسميتها بالخريطة الوطنية وهي الخريطة التي تقسّم العالم حسب التشكيلات الوطنية الحديثة. العالم هنا يصبح "السعوديون وغير السعوديين" بالنسبة للمواطن السعودي. هذه التقسيمة يترتب عليها كذلك نتائج حقوقية وسياسية مهمة جدا. هذه الخريطة لها حضور واقعي حقيقي يتمثل في تشكيلات دول تحمي حدودها بالقوة وتفرض قوانينها بالقوة على أرض الواقع. بناء على هذه التقسيمة نجد تصورات حقوقية والتزامات قانونية خاصة بالمواطنين وتصورات والتزامات قانونية خاصة بغير المواطنين. كغيرها من الخرائط نجد أن هذه الخريطة تفرض سؤال العلاقة بين المواطنين وغير المواطنين لنجد كذلك تيارات تتفاوت بين الشوفينية الوطنية التي تحصر الحقوق في المواطنين وتصورات أخرى تكفل لغير المواطنين حدودا معينة من الحقوق. النقطة الأساسية هنا هي أن تقسيم العالم بناء على الحالة الوطنية هي التقسيمة المناسبة لتصور العالم والتعامل معه.

خريطة أخرى يمكن تسميتها بالخريطة الطبقية والاقتصادية ترى العالم من خلال الطبقات الاقتصادية فالبشر هنا عمال/أصحاب عمل، فقراء أغنياء..إلخ. بناء على هذه الخريطة تقدم الفلسفات الاقتصادية كالماركسية تصورا للتاريخ والسياسة والصراع بين البشر. العمال هنا يصبحون طبقة لها طبيعة متميزة عن طبقة الملاك أو المسيطرين على وسائل الإنتاج، وبالتالي لهم دور سياسي واجتماعي مختلف. العلاقة هنا بين الطبقات أخذت طابع الصراع في غالب الأطروحات ممتد من ضرورة الثورة وإعلان دكتاتورية البروليتاريا، إلى ضرورة العدالة الاجتماعية، من خلال قوانين توازن بين أطراف العلاقة الاقتصادية وتكفل حقوق الطرف الأضعف.

كانت هذه أمثلة على تصورات مختلفة للخريطة البشرية تنطلق من زوايا مختلفة. في الغالب تتجسد هذه التقسيمات وغيرها في القاموس السياسي والاجتماعي وحتى الفكري والأدبي لدرجة أنها تصبح من المسلمات والتصورات الطبيعية للعالم. لاحقا سأحاول مناقشة أهمية تحويل هذه الخرائط من مسلمات إلى قضايا للتفكير والنقد ومن إجابات إلى أسئلة ومن حدود للتفكير إلى نقاط انطلاق للتفكير.