كان نبأً عظيما، ومشهدا أليما، ما رآه وسمع به العالم حين قام ضالٌّ من أولئك الضالين بتفجير نفسه وكوكبة من رجال الأمن، في طيبة الطيبة، وحرم نبينا -صلى الله عليه وسلم- في أطهر بقعة، وأشرف مكان، وأكرم زمان، والناس بائتون سجدا وقياما يرجون رحمة الله ويخشون عذابه، فلم يراع هذا المأفون الحرمات، فانتهكها بقتل الشهداء الأبرار المغدورين من أولئك الساهرين على خدمة ضيوف النبي -صلى الله عليه وسلّم- القادمين من كل فج عميق ليغنموا القرب من السيد الجليل -صلى الله عليه وسلم- والسلام عليه وشهود مواطنِه المنيفة الشريفة.
واضح -إذن- أن الإرهاب لا يفرق بين مكان ومكان، ولا بين زمان وزمان، وواضح -إذن- أن الجميع مستهدَف.
جاء في الحديث أن "دماءكم وأموالكم وأعراضكم محرّمة عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد".
فالدماء والأموال والأعراض المعصومة عند الله شديدة الحرمة، وهو الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرّمًا، فكيف إذا كانت هذه الدماء والأموال والأعراض هي للمسلمين؟
إن من ينتهك عرض أخيه المسلم أو ماله، أو دمه، منتهك ثلاث حرمات في وقت واحد، كما جاء في الحديث، مهما يكن مذهب هذا المسلم، ما دام مسلما من أهل القبلة، يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، "فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله تعالى"، كما جاء في الحديث النبوي في حق المشركين المقاتلين.
إن حرمة دم المسلم أشد عند الله من حرمة الكعبة المشرفة نفسها، والفرق بين من ينتهك عرض أخيه المسلم، وماله، ومن ينتهك دمه، إنما هو فرق في الدرجة، أما النوع فهو واحد!
فمن شتم بريئا بغير حق، أو اعتدى عليه بنوع من الأنواع الاعتداء، أو ظلمه بنوع من أنواع الظلم، فهو طاغ باغ ظالم، له نصيبه من الطغيان المستوجب للإثم المبين، والحساب الشديد بين يدي رب العالمين، فكيف إذا كان هذا البريء مسلما من المسلمين؟
لا عاقل إلا يدين ويستنكر مثل هذه الجريمة البشعة في حرم النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، والتي أزهقت أرواح الأبرياء، وروّعت الآمنين، ولكن على هذا العاقل أن يتأمل حاله هو أيضا، أتراه يعتدي على بريء، أو يظلم أحدا من عباد الله، أو يأكل حقا من حقوق الناس، فيكون شبيها بمن ينكر عليه نوعا وإن اختلف في الدرجة؟ لأن ظلم العباد من نوع واحد، مهما اختلفت درجات هذا الظلم، لئلا يكون من المتناقضين الكاذبين.
"لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم". أما المغدورون من رجال الأمن فقد التحقوا بالرفيق الأعلى، نسأل الله لهم أن يتقبلهم شهداء عنده، وأما الخاسر الأكبر والمتضرر الأكبر من هذه الحادثة، فهو الإرهاب الذي قضى على نفسه بهذه الجريمة التي جمعت الغباء والخسّة في حبل واحد، وأبان أكثر من ذي قبل عن تعفنه واهترائه وفساده، وعن حمق من لا يزالون يصفقون له.
لن ينال الإرهاب مراده، ولن يحقق أهدافه، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين، هذه سنّة الله التي لا تتبدل ولا تتغير: "فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا".
ولئن كانت المواجهة الأمنية للإرهاب جارية على قدم وساق، فلا بد -مع ذلك- من مواجهته فكريا، لا بطريقة الردود والجدل وإزالة الشبهات فقط، بل ببناء منهج لفهم الدين، وتوسيع دائرة الاجتهاد، منهج واجتهاد ملائمين لهذا العصر وقضاياه، دون الانحباس في الماضي، ودون استيراد حلول الأمس لمشكلات اليوم، أو إسقاط قضايا الماضي على قضايا الحاضر، فلكل زمان دولة ورجال، ومشكلات وقضايا وحلول.
أما ثوابت الدين التي يصحّ أن تسمّى "ثوابت"، مما وقع عليه إجماع جميع المسلمين عصرا فعصرا، فهي حرَم لا يُمَسّ، لكنّ المشكلة هي فيما يقال إنه ثوابت، وهو في حقيقته ما هو إلا اجتهادات من فقهاء من المسلمين، منه ما يُزعَم أصولاً يقوم عليها التكفير، وهي في حقيقتها بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر، فليست هي إلا اجتهادا من الاجتهاد. وليست هي من القطعي المجمع عليه إجماعا منقولاً بالتواتر عند كافّة المسلمين.
فهل يمكن أن تتحقق هذه المواجهة الفكرية بلا ازدواجية ولا تناقض ولا تطرّف مقابل؟