العلمانية ليست دينا ولهذا لا توضع مقابلة للدين، لأن الدين في حقيقته مسألة ضمير، ومحاولة إخراجه من هذه الحقيقة، وجعله مجرد أيديولوجيا مقابلة للعلمانية، فيه إفساد للضمير الديني في سبيل مكاسب سياسية أو اجتماعية جماهيرية أو حتى اقتصادية تسويقية كما هو ماثل في ما يدعى (البنوك الإسلامية) وللعلمانية وجوه عدة، ومظاهر كثيرة، ففي أوروبا أوقفت الحروب الطائفية بين كاثوليك وبروتستانت، وبقيت الكنائس عامرة حتى الآن وزادت عليها المساجد، وهذا أحد مظاهرها الإيجابية الرئيسية، عدا أنها أسست لدولة (المواطن)، ولكن في وطننا العربي يثير استغرابك بعض الإسلاميين عندما ينقدون العلمانية وفق معطى سجالي غير موضوعي، فتجد أحدهم يعطي محاضرة طويلة أنه لا يمكن فصل الدين عن الحياة، ولا يمكن فصل الدين عن الدولة، وأن الدين في أدق دقائق حياتنا، بل هو الهواء الذي نستنشقه ويسري أوكسجينه في شراييننا، ثم تتفاجأ به يستخرج مفاهيم دينية تشوه الدين بحجة حماية الدين، فيقسم وطنه إلى طوائف، فتراه في عمله يصف زميله الشيعي بأنه (رافضي) وزميله الصوفي بأنه (قبوري) والثالث عاشق السياحة في الخارج (زنديق)... الخ، ليسمم جو العمل، بينما تجد هؤلاء الموظفين من خيرة العاملين كفاءة وانضباطا وإنجازا للمهام في المؤسسة الحكومية أو الأهلية التي ينتمي لها، فلا يرى مظاهر التدين والحرص على الدين إلا في تقسيم زملاء عمله ومن ثم شركائه في الوطن من خلال هذه التصنيفات، بينما لو حاكمناه وفق معايير خطابه السجالي السطحي نجد أنه يمارس العلمانية ويعيشها بوجهها القبيح السلبي، إذ تراه آخر من يحضر إلى العمل وأول من ينصرف منه، كثير الأعذار والغياب واللامبالاة، فهو علماني بالمعنى السلبي للعلمانية وفق المنطق السجالي، فيفصل بين واجباته الوظيفية ودينه، فليس من دينه العمل، فلا يهمه المواطنون والمقيمون من المراجعين، وإن حضر إلى العمل تناسى واجبات وظيفته واتجه إلى الوعظ والتصنيف ليقفز على واقع إهماله الوظيفي، متناسيا أن العمل عبادة أيضا.
بارع جدا في إغلاق مكتبه ليفاجئك بحرصه على صلاة الضحى، والتبكير إلى صلاة الظهر قبل موعدها بثلث ساعة تقريبا من باب الاستعداد لها كما يقول، وبارع أكثر في أخذ ساعة وأكثر أحيانا بحجة الصلاة، عدا طوافه على مكاتب الزملاء يذكرهم بالصلاة كأنما هو العابد الحريص الوحيد المشرف على صلاة المكلفين ليكون وكيلا عن الله على عباده، تعالى الله علوا كبيرا على ما يصفون، لكنه التزمت الديني عندما يكون مشغولا بما بينه وبين الناس نحو الله، متجاهلا حقيقة الدين بين العبد وربه بلا إكراه في الدين، ولا وصاية على المكلفين مثله، ولا مزايدة على من هم غالبا أكبر منه سنا، ويمنعهم نضج التجربة عن إعادة تأهيله اجتماعيا، وإخراجه من السادية التربوية التي عاشها باسم الدين، وأصبح يصدرها للآخرين باسم الدين أيضا، لطفولة كانت منتهكة باسم الدين والدين منها بريء، لأب كان يرى في حديث (اضربوهم عليها لعشر) دليلا يجيز له أعنف الأساليب وأقساها وأبشعها لقسرهم على الصلاة، مما يترك أثره الذي لا يندمل على نفسية هذا الشخص، لتراه وقد صدّر لمن حوله التحسس والتجسس والتطفل، ليصنع نفس المزاج القسري الذي عاشه في طفولته، ولكن من باب ممارسته على زملاء الوظيفة، ليتحول جو العمل إلى حالة من النفاق العلني، فيمتلئ المصلى بوجود الشيخ فلان (المهمل وظيفيا)، ويغيب أكثر المصلين إذا لم يحضر ذلك اليوم، كأن من واجبات الموظف انشغاله برابط الناس مع الله، مقابل إهمال فج لما قامت عليه أمانة الوظيفة العامة من رعاية واهتمام بمعاملات الناس، وتخليص إجراءاتهم دون تأخير أو تعطيل، ولهذا أكد فقهاء الدين أن حقوق العباد مبنية على المشاحة وحقوق الله مبنية على المسامحة، لكنه التعلل والتبرير لاصطناع سلطة دينية تريد السيطرة على ما يخص الله وحده، وهو (الضمير الديني للفرد)، مع عجز شديد في هؤلاء المزايدين دينيا أن يكونوا قدوة وظيفية كفاءة وانضباطا وحسن تعامل.
ليت هذا (المطوع) يصبح متدينا في طبيعة عمله بنفس مستوى من هو مشغول بتوصيف حالهم مع الله، ممن يعيشون عملهم اليومي في مكاتبهم كنوع من العبادة والقربة إلى الله في قضاء حوائج الناس، دون الحاجة إلى أن يتحولوا أثناء عملهم إلى آلة وعظ متنقلة لها ضجيج تستر جهلها بأدبيات الوظيفة العامة ومهامها، لنراه يقصر في حق المراجع الفلاني لأن اسمه يشير إلى أنه من الطائفة الفلانية، أو من القبيلة الفلانية، أو المنطقة الفلانية. لا تثق بزميلك الملتحي أو غير الملتحي، مقصر الثوب أو مسبله، إذا فتح معك عنصرية مناطقية أو طائفية أو حتى وظيفية، فجميع موظفي الدولة من الوزير إلى أصغر مرتبة في خدمة الوطن والمواطن، والعنصري يصنع جوًّا من الكراهية داخل العمل، لأنه لا يفهم طبيعة الوظيفة العامة التي تقدم الخدمة أحيانا حتى للمقيم البوذي أو الهندوسي فما بالنا بالمواطنين على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم وقبائلهم.
العلمانية الإيجابية مظاهرها العديدة تراها في الغرب انضباطا وحضارة مع وجود سلبيات، والعلمانية السلبية أخذها الإسلاميون في مسائل كثيرة قد يلتفت لها القارئ أكثر، إذ لم ألتفت إلا إلى فصل واجب الوظيفة عن الدين ليصبح العمل حلاًّ مستباحا لبطالة مقنعة أو وجاهة فارغة، أو عملا حزبيا مقيتا لزرع الكراهية، خصوصا إذا كانت في صروح التعليم بين المعلمين وطلابهم على اختلاف قبائلهم ومذاهبهم، ولا نرى في ممارستها أثرا لذمة عربية أو ضمير إنساني عدا أن نرى فيها أثرا للدين الإسلامي الخالد.
الوطن قائم بغير الشخصية المؤدلجة باسم الدين أو القبيلة لتزرع الكراهية بين الموظفين، مدنيين أو عسكريين، من أبناء الوطن المختلفين في طباعهم ومذاهبهم ومشاربهم، يجمع بينهم إخلاصهم لزعامة سياسية واحدة تقف منهم على مسافة متساوية، وهذه المسافة المتساوية هي سر الولاء الحقيقي والصادق بين القيادة وعموم الشعب، وما عدا ذلك فليست سوى توازنات الرعب التي نراها في كل الدول الفاشلة.