السياسة مجال خصب للكذب، والفيلسوفة الألمانية حَنّه أرندت أحد أبرز من اهتم بتسليط الضوء على الكذب في المجال السياسي. ولها دراستان جوهريتان في الموضوع؛ أولاهما: "السياسة والحقيقة" نُشرت عام 1967، والأخرى: "السياسة والكذب" نُشرت عام 1971. وفيهما نتبين أن ممارسة الكذب واللجوء إليه ليس اختياراً لكل من يمتهن السياسة، بل ضروري ومشروع. كما نتبين أن الحكومات في العالم الحر تكذب كما يكذب الديكتاتوريون والحكومات الشمولية، وأن القدامى لم يكونوا مختلفين عن المعاصرين في اقتراف الكذب السياسي. ولكنها تستنتج أن الكذب لم يبلغ في أي زمن إلى الحدود القصوى التي بلغها في عصرنا، بسبب التقنيات الحديثة المتعلقة بالصورة ووسائل الإعلام والاتصال.
وأظن أن المسألة على هذا النحو تأخذ أهمية من أربعة جوانب، أولها: الحديث عن الكذب، أي عن موضوع قيمة أخلاقية وأدبية محدَّدة في درجة الإثم والرذيلة والخيانة التي تناقض الصدق وتكتسب معناها وقيمتها في قبالته، وهذه قيمة تتأكد فيها قصدية الكاذب إلى تحريف الحقيقة أو إخفائها، على عكس ما ينتظره منه من يتوجه إليه بخطابه؛ فالكاذب ليس في معنى "المخطئ" فحسب، بل في معناه وزيادة. والثاني: السياسة، بما هي ممارسة متعلقة بمجموع، سواء في داخل هذا المجموع، أو في علاقته بغيره. فكل ما له علاقة بالمجموع أدل على ضخامة المسؤولية وأشد اقتضاء للأمانة والشفافية. والثالث: صفة التعميم والاضطرار التي تقرن بين الكذب والسياسة، بحيث تغدو السياسة ممارسة خطرة في كل أحوالها، سواء أكانت هذه الخطورة بمعنى الصعوبة في اتخاذ إجراء أو قرار، أو كانت بمعنى الإفضاء إلى مأزق وممارسة عنف أو نشوب حرب. ورابع الجوانب وآخرها يكمن في بروز الحاجة إلى المعالجة التي تحدّ من مخاطر الكذب السياسي، وتحاصر نتائجه.
أما مخاطر الكذب السياسي فإنها تشمل التضليل والتدليس وكل الخدع التي تحاك للإقناع بشن حرب ظالمة، أو للتغطية على جريمة ضد الإنسانية وتبريرها، أو اغتصاب السلطة الشرعية والاستيلاء عليها بالقوة وممارسة القهر للناس وقمعهم في سبيل ذلك. فالاستعمار الأوروبي الذي اغتصب خيرات البلدان الضعيفة في العالم، وأعمل القتل والاستعباد والقمع لشعوبها، لم يكن يسمِّي ما يقوم به عدواناً أو إجراماً، وكان يختبئ من ذلك وراء كذبة التعمير والإنهاض والتمدين الذي يقوم به الرجل الأوروبي لـ"قطعان" العجز والجهل والتخلف. والدولة الشيوعية الشمولية التي تنهي صراع الطبقات وتؤمِّم الملْكية وتحقق الرخاء والعدالة والمساواة، كانت، هي الأخرى، كذبة دكتاتورية تسلطية على الفقراء والعمال والمغبونين والحالمين، أطلقت مارد العنف الأحمر في الثورة البلشفية على يد لينين وستالين، لتقتل الملايين في ما سمِّي بالاتحاد السوفيتي. وهكذا كانت العنصرية النازية في ألمانيا كذبة تصاعدت على يد أمثال هتلر لتسبب الحرب العالمية الثانية وهولوكوست اليهود، وكانت "أرض الميعاد" كذبة صهيونية لتأسيس إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني... إلخ.
هذه الأمثلة ترينا درجات إجرامية فظيعة، لما يمكن أن تكون عليه أشكال الكذب السياسي، ولكنها في الوقت نفسه ترينا أن هذا الكذب لا بد أن يتكشَّف ولو بعد حين. وهو إذ يتكشَّف عن الفظائع يثير أسئلة عن لَمَعان تلك الوجوه السياسية وكارزماها ونجوميتها التي صنعها الكذب وصنعته بلا فرق. وعن تواطؤ المجتمعات وقابليتها لإنتاج كذاب بحجم لينين أو هتلر، وتصديقه والتفاعل معه وتغييب وازع الضمير الإنساني والحس النقدي العقلاني. فليس الكذب الذي يصنع الفظائع ضد الإنسانية، إلا رتبة من رتب الكذب الذي تقتضيه السياسة ويتداخل معها، ويتمظهر في أشكال الدعايات الانتخابية ولوبيات صناعة القرار ومصنعية الإيديولوجيا، ووسائل الإعلام. ولقد كان التقارن بين "البلاط" و"الشاعر" قديماً، دليلا بسيطا ومباشرا على حاجة الحُكم المستمرة إلى تخييل وترويج ودعاية؛ وإلى آلة لإنتاج الكذب وتوزيعه. وهي الحاجة نفسها التي يستمر من أجلها الكذب السياسي في المجتمعات الحديثة؛ المجتمعات الديموقراطية الحرة والمفتوحة على التعدد والاختلاف، التي يرتفع فيها الحس النقدي وتَقْوى المسؤولية الفردية.
الشيء الجديد في هذه المجتمعات الأخيرة هو الكشف عن الكذب عبر أجهزة مؤسسية، وهو كشف قد يتحول هو الآخر إلى ممارسة للحجب والتعتيم بقدر ادعائه الكشف والإظهار. والمثال الأحدث والأبرز هنا هو "تقرير تشيلكوت" الذي نُشر في بريطانيا الأربعاء الماضي أول أيام العيد "بوركت أعيادكم"، ويتضمن اتهام رئيس الوزراء توني بلير، الذي اتخذ قرار مشاركة بريطانيا لأميركا في الحرب على العراق عام 2003، باقتراف خطأ سياسي كان يمكن عدم الوقوع فيه؛ وذلك لأنه اتخذ قرار المشاركة بناء على معلومات وتقييمات استخبارية ضعيفة، ولم يحقق الأهداف التي أعلنتها الحكومة. فعلى الرغم من أن التقرير ينم عن اقتراف بلير للكذب، فإن عدم وصفه بلير بالكذب هو نقطة جوهرية أمسك بها بلير للدفاع عن نفسه بقوله مخاطباً الحضور في مؤتمر صحفي في لندن: "كما أوضح التقرير لم تكن هناك أكاذيب، لم يتم تضليل الحكومة والبرلمان، ولم يكن هناك التزام سري بالحرب". وذلك في مقابل عبارة الاتهام له بالكذب التي ردَّدها المتظاهرون الذين تجمَّعوا في أثناء جلسة عرض التقرير، قائلين: "لقد كذب بلير، آلاف الأشخاص قُتلوا". وتأكيد بلير أن التقرير ينفي اقترافه الكذب، هو تدليل منه على اتصافه بالبراءة، حتى وإن دلَّل التقرير على اقترافه أخطاء؛ لأن "الكذب" دلالة على القصد إلى حجب الحقيقة أو تحريفها، وهي دلالة إجرامية في مثل هذه الحالة، أما "الخطأ" في التعبير عن حقيقة، فلا يستلزم قصد الحجب أو التحريف لها. وإذا كان التقرير يساعد بلير، فعلاً، على هذه البراءة، فإن التقرير يمارس بدوره كذباً حين يصف الكذب بالخطأ. ومثل ذلك في الدلالة على حجب التقرير للحقيقة وانتقاصها، توجُّه بلير، في ردِّه، إلى التأكيد مراراً بعبارات مختلفة على أن الإطاحة بصدام حسين كانت قراراً صائباً؛ فهذا الرد من بلير استجابة منه إلى خطاب مضمر في التقرير لا يفصل بين الإطاحة بصدام وبين كل الدمار والتحطيم للعراق؛ فإذا كانت الإطاحة بصدام صائبة فالقتل لحوالي مليوني عراقي والتشريد لثمانية ملايين غير الجرحى والمصابين والهدم للدولة في العراق وتلويث بيئته... صائب. والذي يجعل هذه الأخيرة خطأً في التقرير، ليس عدوانيتها وإجرامها إنسانياً، وإنما لأنها أصبحت سبباً في تفاقم الإرهاب والمخاوف منه على بريطانيا!