لحظات الخلاف ومواسم ردود الأفعال تكشف، في كثير من الأحيان، عن منطق غائب وصور من الاختلاقات سرعان ما تنتشر كالنار في الهشيم. وفي الواقع العربي، تحل "القضية الفلسطينية" كشاهد على التشويه الذي يطل من عباءة الصراعات الإقليمية، خاصة إذا كان الفلسطيني طرفا فيه، مأخوذا إلى زوايا المغضوب عليهم، والمراد تسفيه أو شيطنة ما يعنيه، والذي جَمعَ العرب لفترة طويلة من الزمن حوله. ظهر هذا في الحرب الأهلية اللبنانية "1975-1990" التي أسماها الصحافي غسان تويني "حروب الآخرين على أرض لبنان"، وغزو النظام العراقي السابق للكويت "1990"، حيث شاركت قوى فلسطينية في الصراع الأول بقضها وقضيضها، وتلقت من الضربات في قياداتها ومدنييها ما يجعلها طرفا مستدرا للّعنات، ومقصدا لإدراج القضية الفلسطينية في مرابع ليست من العدالة في شيء. عقب زلزال الغزو، مضى خليجيون وعرب كثر إلى مراجعة موقفهم ليس من "القيادة الفلسطينية" فحسب، ولكن من القضية الفلسطينية ذاتها. لم يشع ذلك جهارا على نطاق رسمي أو في وسط النخبة المثقفة، بيد أن انتشاره على مستوى شعبي خلّف أسئلة ما كانت لتُطرح لو لم يُسفر الغزو عن وجوه قاتمة توسلت "القضية" ردحا طويلا من الزمن، وأبانت عن تناقض حاد بين المُنطلقات المبدئية والانتهازية السياسية التي تمثلت في تأييد الاحتلال ورؤوسه. هذه الخطوة الداعمة لمعنى التغول بـ"الشقيق الأكبر" الذي أشبع مستمعيه شعارات غير قابلة للتحقق، كان لا بد لها من وقفات أتاح بعضها للغرائز قنوات تعبيرية، وساوى بعضها الآخر بين عدالة القضية والمتحدثين باسمها.
خلقت الحالة طقسها التبريري، وذهبت تفتش عن شواهد تلقي باللائمة على الضحايا الذين صاروا، بعد مواقفهم المتخاذلة، جلادين ومبشرين بعالم جديد تحت قيادة عربية ترى أن من مهامها الخلاصية تفريغ البلدان من أهلها وإلباسهم يقينا بأهمية الواقع المستجد لتحرير فلسطين و"بعث" التاريخ المنتصر من مرقده. فكان، مثلا، ما ألصق تهمة بيع الأرض بملاك أراض فلسطينيين، واعتبار ما جرى كفيلا بوضع حد للتغريبة الفلسطينية في زمان القائلين بذلك ومكانهم. إذ الدلالة تضاعف عادية المآل الفلسطيني وترى فيه نتيجة "طبيعية" لصفقة تجارية تخلو من علامات القسر، وتتوسم الحق في المشتري الذي يجيبُ ماله، بحسب مروجي هذه "الحكاية"، عن سؤال الاقتلاع الفلسطيني ولاجئيه المستحقين لخدمات وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة الذين تجاوزوا الخمسة ملايين، ناهيك عن أولئك الذين لم تُحصهم "الأنروا"، ويعيشون في بلدان مختلفة حول العالم.
بهذا المعنى، خرجت "القضية" التي شغلت العرب، مشارقهم ومغاربهم، من دائرة التضامن والانتماء الفاعل إلى ساحة تكثر فيها مصطلحات المتاجرة الموصلة إلى تخوين تقلبت الأوصاف العالقة به بين الصراحة والضمنيّة. كما أفسحت الذكريات دما مسفوحا لجيل رائد ترك دفء الأهل والمرابع الآمنة إلى مهام "جهادية" آمنت بوجوب تحرير الأرض السليبة، وإعادتها إلى أهلها؛ على أن الذكرى، والمقام مقام تبخيس، لم تخلُ من حسرة وبكاء على الفقد الذي "راح هباء منثورا". إذ السعي الحثيث لإنزال العيوب بمدشني "الخذلان الجديد" وما ينتسب إليهم هو مما يُحتاج إليه، كمقدمة نفسيّة، لغسل اليد مما ظل ملء الاهتمام والدعم لعقود طويلة، ولتواجه أي عقدة ذنب "مستقبلية" بأدلة على مستوى الغفلة الذي اعتقد مروجو "حكاية البيع" أنهم وصلوا إليه، ولم يكتشفوه إلا بعد مباركة فلسطينيين، قيادات وجماهير، للنهم التوسعي للنظام العراقي السابق.
في لقاء تلفزيوني مع قناة الجزيرة، يعود تاريخه إلى 10 أكتوبر 2007، قال الدكتور سلمان أبوستة، مؤسس "هيئة أرض فلسطين" أن مجموع ما بيع لليهود من أراض، حتى قيام إسرائيل، لم يتجاوز 5.50% من كامل فلسطين التاريخية، وأن كثيرا من ملاك هذه الأراضي كانوا يعيشون في المهجر. كيفن كاهل وروب ماكموهان ينقلان في كتابهما "من يملك العالم" نسبة تزيد على 2% عما ذكره الدكتور أبوستة. أي أن النسبة في أكثر الأرقام تفاؤلا لم تتجاوز 7%.
حتى إن سلمنا جدلا بخطأ إحصائية الدكتور سلمان أبو ستة، أو تجاوز معلومات مؤلفي الكتاب، فالمتأمل في حالة التشنيع هذه يلحظ مغالطات منطقية، أبرزها المغالطة "الجينية" التي نلعن فيها مصدر الفكرة لا الفكرة نفسها، بحيث يُصار إلى التركيز على القائل بدلا من القول، والتسليم، على سبيل المثال، بوجاهة الكِتاب لأن نجومية الكاتب لا تُقاوم، وقد يُشكل اسمهُ "سلطة حاكمة" نقبل أو نرفض على ضوئها! فالحديث الأهم، عوض الذهاب إلى فلسطينيين نختلف مع مواقفهم، ينبغي أن يتركز على عدالة القضية وحجم الإجرام الذي طال ملايين من الأبرياء بفعل الآلة العسكرية لعصابات الهاغانا وإراغون وشتيرن "قبل عام 48"، وماذا فعلت هذه العصابات بعد تأسيسها جيشا ودولة قاما على تصور يرى في الأرض الفلسطينية حقا بدهيا، وأن العنف المُشهر في وجوه أهل البلاد المبادة قراهم والمسواة بيوتهم بالأرض، والمُكرَهين على منافي الدنيا، والمحاصرين في مدنهم بلا كهرباء أو ماء، في كثير من الأحيان، هو عنفٌ تغذيه خرافة أخرى تقول بأرض بلا شعب؛ إذ تزوير التاريخ على أشده، واغتيال المعنى يقيم احتفالاته على مرأى من جناية القريب المروج لـ"حكاية البيع" المُتهافتة، ودأب البعيد الذي يتحسس مخططاته كلما توقف أحدنا ليسأل أو يعيد النظر في أحاديثنا السيّارة التي لطالما زودت المغالطات بأمثلة خصبة، ولم يدرك كثير منها بعد أن "الرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال".