صوّت البريطانيون بنسبة 52% على الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي حالة تطبيق هذا القرار، فإن القوة الاقتصادية الثالثة في أوروبا، لن تكون عضوا في الوحدة الأوروبية، وسيشكل ذلك ثلما كبيرا في هذا المشروع الكبير.
لم يكن تحقيق الوحدة الأوروبية تحقيقا لحلم عابر، استمر أكثر من سبعة قرون، وكان محرضا لأعمال أدبية، شملت الشعر والدراما والمسرح، بل تجسد عسكريا على أرض الواقع، في الحروب التي شنتها الدول الأوربية، بتحريض من البابا على الدول الإسلامية، والتي عرفت تاريخيا، بالحروب الصليبية.
وفي العصر الحديث، جاء تشكيل الاتحاد، نتيجة عمل دؤوب استمر قرابة ثلاثة عقود، وقد بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة، وتشكلت بداياته بمدماكين: مشروع مارشال الأميركي، لإعادة بناء أوروبا، بعد التدمير الهائل الذي لحق بها خلال الحرب، وأيضا تدشين حلف الناتو، وإعلان الولايات المتحدة لاحقا وضع أوروبا الغربية بأكملها تحت حماية المظلة النووية.
وكهذا كانت البداية ثابتة وراسخة، حلقت بجناحين قويين، اقتصادي هو مشروع مارشال، وعسكري هو حلف الناتو، وكان ذلك هو السبيل الوحيد، لإيجاد أوروبا قوية في شطرها الغربي، المواجه بشكل مباشر، للمارد السوفييتي، الذي تُوج واحدا من قطبين رئيسيين في صناعة السياسة الدولية، والذي بدأ منذ مطالع الخمسينات من القرن المنصرم، حربا باردة ضروسة مع اليانكي الأميركي وحلفائه. لكن جميع ذلك، على أهميته، لا ينفي أن تشكيل الاتحاد الأوروبي، بالنسبة للقارة الأوروبية، والعالم أجمع هو أقرب إلى المعجزة. فقد جعل من القارة الأوروبية القوة الاقتصادية الثانية عالميا، بعد الولايات المتحدة الأميركية.
الخروج البريطاني من الاتحاد، هو نتاج تراكم مرير للتداعيات التي مر بها عبر مسيرته التي امتدت قرابة نصف قرن من الزمن. فهذه الوحدة لم يعززها نص فكري متكامل، يملك قابلية التطبيق على أرض الواقع. لقد تبلور المشروع تدريجيا، وانتقل من صيغة سوق أوروبية مشتركة، بدأ التهيؤ لها إثر نهاية الحرب العالمية الثانية، وباتت أمرا واقعا في بداية الستينات.
ولا شك أن النظر إلى الخريطة السياسية للقارة الأوروبية، يجلي بعض الصعوبات التي واجهتها لحظة التأسيس للاتحاد. فالدول الأوروبية، تمثل كل منها أمة قائمة بذاتها، لها لغتها وتاريخها وثقافتها الخاصة. ويعاني بعضها مشاكل إثنية خاصة في الداخل، إذ تطالب أقليات قومية بالاستقلال، كما هو الحال في إسبانيا، مع الباسك، وبريطانيا مع أسكتلندا وأيرلندا.
وعاشت القارة الأوروبية حروبا ضارية بين دولها، امتدت عشرات السنين. وفي القرن الماضي، شهدت القارة حربين عالميتين مدمرتين، حصدت الأخيرة منهما أكثر من سبعين مليون قتيل، وعشرات أمثالهم من الجرحى.
يضاف إلى ذلك، أن الدول الأوروبية التي تشكل الاتحاد، تتفاوت كثيرا في قدراتها الاقتصادية والعسكرية، كما تتفاوت بشكل كبير في حجومها وتعداد سكانها، وفي ثرواتها وإمكاناتها العلمية والصناعية. وكان كل اختلاف يضيف معضلات جديدة إلى مسيرة الاتحاد.
علاوة على ذلك، فإن البنية الهيكلية لهذه الدول وعقائدها السياسية، وبشكل أكثر تحديدا دول أوروبا الشرقية، ظلت مختلفة جذريا إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفييتي، ولم تكن أوضاعهم الاقتصادية بأحسن حال. وحين جرى إدماجهم في الاتحاد الأوروبي، لم يضع صانعو القرار، في بروكسل، حسابات الأرباح والخسائر. كانوا مدفوعين بطبيعة اللحظة، وبمهرجان الفرح وموسم نهاية التاريخ الذي ساد عموم القارة الأوروبية، احتفاء بسقوط الإمبراطورية الشيوعية.
لقد فرضت الأحداث المتلاحقة، وانضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد، الذي تأسس عام 1973، بتسعة أعضاء، لتصل عبر محطات عدة إلى خمسة وعشرين عضوا عام 2004، على مركز الاتحاد أن يعيد صياغة تركيبته عند انضمام عضو جديد، أخذا بعين الاعتبار، إمكانات العضو الوافد، والمساهمة في حل أزماته الاقتصادية، ومعالجة الإشكاليات الناجمة عن تحول البلدان الاشتراكية إلى الطريق الديمقراطي، ودمجها في مسيرة الاتحاد.
وكان على قيادة الاتحاد أن تعيد النظر في كل مرة يلتحق بها عضو جديد إلى آلية صنع قراراتها، ونسبة تمثيل كل عضو داخلها.
وحين نعود إلى الفريق المؤسس، فرنسا وألمانيا. وهما أمتان عظيمتان، تواجهتا في حروب مريرة، انتهت الحرب الأخيرة، باحتلال ألمانيا النازية لفرنسا، ويمكن أن نتصور حجم الصعوبات التي واجهها الاتحاد، حين نطل على مستوى اعتداد كل منهما بتاريخه وثقافته وأمجاده.
وعندما التحقت بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، عام 1974، أضافت إشكالات جديدة إلى بنيته. لقد نظر الأوروبيون باستمرار إلى بريطانيا كامتداد للسياسة الأميركية، وأنها تابعة اقتصاديا لأميركا. عارض الرئيس الفرنسي شارل ديجول، التحاق بريطانيا بالسوق الأوروبية المشتركة، ولم يتمكن البريطانيون من الدخول إلى السوق، إلا بعد مغادرة ديجول موقعه الرئاسي في قصر الإليزيه.
لقد مثلت علاقة بريطانيا بأميركا إشكالية دائمة بالنسبة للأوروبيين، فهناك ما يشبه الاندماج التام في الثقافة البريطانية والأميركية. وصناع السياسة الأميركية هم في الغالب من البروتستانت الذين غادروا إنجلترا إثر فشل الثورة الإنجليزية التي قادها المتطهرون، بزعامة أوليفر كروميل. ويسجل المهتمون بالتاريخ الأميركي، أن جميع رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، باستثناء جون كنيدي، هم من المسيحيين البروتستانت، وينحدرون من الأسلاف الذين هربوا من الاضطهاد الكاثوليكي، وقد ظل هؤلاء وأحفادهم أمناء لإرثهم البريطاني، حتى يومنا هذا، ولذلك يأتي انفصال بريطانيا عن الاتحاد متماهيا مع بنية نفسية خاصة، وتجانسا مع ثقافة خاصة.
ولا شك أن الاختلافات في البنية الثقافية والنفسية تشكل تحديات كبرى للاتحاد، وستسفر الأيام القادمة، عما إذا كان الاتحاد سيتغلب على تحدياته، أم أنه سيكون ضحية تشرنق أعضائه في ثقافاتهم وانتماءاتهم الخاصة.