لي صديق نشيط في الركض، يخرج معنا لكنه لا يتنازل عن وقت رياضته، يذهب إلى عمله مثلنا، وفي جدوله الأسبوعي أوقات للركض، حدثنا عن أرقام مفجعة نشرتها إحدى مجلات منظمة الصحة العالمية: امرأة من كل اثنتين، ورجل من كل ثلاثة هم دون المستوى المطلوب من الحركة الفعالة في دول شرق المتوسط، استكثرناها، قال: إن نسبة قلة الحركة في العالم بلغت 31%، قلنا: رقم يضاف إلى ما اعتدنا سماعه من أرقام، قال مضيفا: إن عدد الوفيات السنوية عالميا بسبب قلة الحركة هو 3.2 ملايين شخص! إن قلة الحركة وما ينشأ تبعا لها من زيادة وزن هو مسؤول عن 27% من حالات الإصابة بمرض السكر، 30% من أمراض القلب وتصلب الشرايين، بل 21- إلى 25% من حالات الإصابة بسرطان القولون وسرطان الثدي. قلنا: إنك تخيفنا! هذا ليس إلا مزيدا من الأرقام المرعبة التي نسمعها ونتجاوزها كأنها لا تعنينا!

الآن أخذ الحديث مع صاحبنا الراكض مجالا آخر، قال لنا: لا تلتفتوا إلى الركض والرياضة من جهة الصحة فقط! إن الركض لا يعود عليك بنفع في بدنك وحسب، بل في وعيك وفكرك وإرادتك! وكالعادة رمقناه بنظرة استغراب فيها شيء من سخرية واستقلال بما يقول، بل إن بعضنا بادره بتثاؤبة واسعة فيها ما فيها من كسل وخمول، قال بحماس غير آبه بنظراتنا: إن في الركض من العبر ما هو جدير بأن يكون منهج حياة، بل فيه من الفكر ما يكفي لإيقاظ مجتمعات، طبعا ازداد خمولنا خمولا وأحسسنا أن صاحبنا من أدباء هذا الزمن الذين يتحدثون مع أنفسهم تفكيكا وتركيبا، فلا تكاد تفهم منهم شيئا.

عاجلنا صاحبنا قبل أن يفقدنا ونفقده: أحدثكم عن برنامج الركض الخاص بي، وليس هو بحديث مغرور معتد بنفسه، ولكنه حديث معتبر متأمل، والحكم لكم بعد السماع! قلنا له: هات ما عندك. قال: إني لا أعبأ بتعب الركض والجهد ولكني أجاهد نفسي في جرِّها إلى حصة الركض والإنجاز، إن من يركض هو في حركة مباركة، والحركة بركة، عضلاتك تعمل، قلبك ينبض حياة ونشاطا، دماغك يرتاح لينصقل، نفسك تسترخي لتنشط، ونحن فينا ميل إلى خمول واسترخاء العقول لا العضلات، فقبل أن تجر عضلاتك تجر نفسك للعمل جراً، فهم حمل النفس على الركض أكبر عندي من تعب الركض!

لاحت لحظة سكون وتأمل، بالفعل إن الهم الذي تحمله حتى تنجز عملا ما لعله يكون أثقل من العمل نفسه! لكن من يعتاد الركض في ميادين الحياة، ويركض دائما، فإنه يتمرس على تجاوز هذا الهمِّ الخطير الذي يقع فيه كثيرون أسارى حيارى مسجونين في أنفسهم باختيارهم! تجد المتمرس لا ينتهي من حصة ركض إلا يبدأ أخرى! وهكذا من ينجز يسهل عليه إنجاز المزيد من الأعمال، ومن يكسل ويخلد إلى الخمول يصبح مشي عشر خطوات أمرا مرهقا عسيرا عليه!

تابعنا التأمل في سكون.. شخصت أبصارنا نحو محدثنا الراكض..أردف مستتبعا حديثه عن برنامج الركض الخاص به: هناك معانٍ جمة تنشأ بعد كل كيلومتر أركضه!! رد أحدنا ساخرا تعلوه ابتسامة استقلال: ماذا ماذا ماذا؟ لم يمهله صاحبنا كثيرا، بل عاجله بقوله: تبدأ أولى قفزاتك في الكيلومتر الأول وما تلبث أن تشعر بإرهاق شديد وكأنك لا تستطيع أن تكمل وتحدثك نفسك أن كفّ عن إتعابي وإرهاقي! وهذا مفسر فسيولوجيا بأنك تحرق السكر (الجلوكوز) المتاح في دمك، فإذا ما بدأ في النزول لمستوى يستنفر معه الكبد العمل لتكسير مزيد من مخزون السكر لديه وضخه للدم، حتى تكتمل هذه العملية تشعر بتعب شديد، ولكن الواجب على أرباب الإرادات الفعالة والطاقات المتقدة: الصبر والتحمل، فهكذا هي البدايات، صعبة دائمة وقاسية، لكن إذا تنصل الإنسان من مقاومة التعب، واستسلم لما يجذبه ويثقله عن التحليق في سماء المتعة بالعمل فإنه لن ينجز شيئا في حياته!

رد أحد الجالسين الذي لزم السكوت منذ بداية الحديث ولكنه يبدو أنه استيقظ على جمال المعنى: الله الله! وماذا يحدث في الكيلومتر الثاني إذا؟ التمعت عين صاحبنا اغتباطا أن لمس ذرة استجابة من أحد، وتابع: وأنت تركض منهيا الكيلومتر الأول، يبدأ ذلك التعب الشديد بالتلاشي، ويبدأ جسدك في التأقلم مع الحركة، تشعر بنشوة، تنتشي بعزيمة أنك انتصرت على ما يأكل الأوقات وقاومت نفسك وبدأت الركض، بل وتجاوزت تعب البدايات، وها أنت ذا تركض في الكيلومتر الثاني، ما زالت هناك حقيقة قدر من تعب لكنه لذيذ، يوجد إرهاق لكنه ممتع، وهكذا هو العمل في هذه الحياة، متعته تنسيك التعب، سعيك يرفع همتك، ركضك على الأرض لا يلبث أن يرفعك طائرا في عالم جميل تحقق فيه ذاتك، وتسعد بجهدك وعرقك! وكأن كل قطرة منه ترتب على كتفيك فخرا بجسارتك وصلابتك، فلا يزيدك هذا إلا مواصلة لركضك، ومواصلة لجهدك بجهد، والغريب أنك من شدة انغماسك في معاني الحركة هذه قد تنسى جسدك! نعم قد تنسى التعب والجهد! فهكذا هو العمل في هذه الحياة: هناك تعب، هناك منغصات، لكنك تركض مستمتعا ولن ترضى أن يكدر استمتاعك شيء، وأهم من هذا أن رؤيتك واضحة، ووجهتك معلومة حين تسعى إلى هدف محدد، لا تفصلك عنه إلا مسافة أنت قاطعها، بإذن الله، فلم الرضوخ للمنغصات؟

جاء تعقيب من استيقظ حديثا منا فيما ظل آخرون ما بين مستمتع بالحديث وما بين متفرج غير معني بما يقال: يا سلام يا سلام! كل هذا في الركض، وبعد لما تنتهي؟ قال صاحبنا: نعم وأكثر، فما إن تنتهي من الكيلومتر الثالث حتى ينتابك شعور أنك قد أنهيت نصف المسافة، وبقي عليك النصف، قد تتهيب! قد تغلبك نفسك وتقنعك أنك لا تستطيع أن تتابع الركض! فأنت تعبت، وعرقت، واجتهدت، يكفي إذاً، ارض بهذا الإنجاز إنه كافٍ لك! انظر إلى غيرك الذي لم يركض! أنت أفضل منه... إلخ، وهكذا تملؤك هواجس ذاتك، ومثبطاتك الداخلية، لكنك ذكي، وبذكائك تجعل هذا الحوار بينك وبين نفسك في داخلك، ولا يؤثر على حركة قدميك وساقيك اللذين يسابقان الريح قفزا كفراشة تعلو زهرة وتهبط إلى أخرى في الكيلومتر الرابع، لقد بدأت وأنت تتابع زفير شهيق.. زفير شهيق.. إنك تستنشق عبيرا خاصا لا يستنشقه ولا يجده إلا أهل الإرادة وأصحاب الإنجازات!

في الكيلومتر الرابع بدأت مرحلة الثقة العالية بالنفس، مرحلة يشكرك فيها قلبك الذي يدق سريعا مزيلا العطب من شرايينه، رئتاك اللتان تستنشقان عبيرا جميلا يملؤهما سعادة، كل خلية في جلدك تعمل وأنت تتعرق استجابة للدم الفائر في عضلاتك والذي ينتج طاقة بحاجة إلى تبريد، جهازك الهضمي يوفر السكر لك، دماغك ينظم عمل المفاصل وتناسق الحركات، إنها مرحلة الانطلاق ومواصلة السير الحثيث، ومن الطبيعي أن يبدأ الإرهاق في التسرب إليك في الكيلومتر الخامس، أنت لا تعترف به، بل تقاومه، بل تجعل هدفك منصبا على إنهاء الكيلو الخامس قبل السادس، لأنه هنا قد تحدث النكسة، هنا قد يغلبك الإرهاق فتتوقف، أو تغلبك نفسك فتمتنع عن متابعة المسير، وكم من مشاريع بدأت لكن لم يُعرف لها نهاية! بدأت وصدق أصحابها، لكن الإرهاق أوقفهم! واصل الركض! فها أنت ذا في الكيلو السادس! ما هي إلا أمتار بسيطة وستنتهي! زمن بسيط وتصل إلى مبتغاك! واصل الركض فإن انتهيت فما هو إلا لتبدأ من جديد! فأنت تحب الركض! وتحب الإنجاز! وتحب العمل! فالعمل حياة! والحياة حركة!