ربما لم تكن هناك عملية لبعض المنتمين لداعش أو الفكر التكفيري بشكل عام أكثر إيلاما وصدمة من توأمي داعش اللذين قتلا أمهما في النصف الأول من رمضان. هذه الصدمة لم يكن أحد يتوقعها مطلقا، ولم تكون في حسبان أي إنسان يمكن له أن يفكر بأن يقود الفكر الداعشي إلى هذه الإجرامية حتى عند أكثر المتشائمين من الناس.

الصدمة تكمن ليس في مجرد القتل فحسب بل هو قتل تحت تدبير واحتيال ووحشية لم يفق منها المجتمع سريعا خاصة لما تحمله صورة الأم من قدسية ليست لغرها في المخيال العربي والإسلامي، بل وحتى الإنساني بشكل عام.

من كان يتوقع أن الأمهات سوف يكنّ ضحايا للشباب الذين يجندهم داعش؟ الحالة التي وصل لهذا هذا التنظيم تسير به نحو نهايته مع مرور الوقت، فما إن يصل الأمر إلى ذروته حتى يبدأ بالنهاية، وعلى كل حال فإن التنظيمات الجهادية الإسلامية هي تنظيمات تدور حول مفردة الموت حتى مع الاختلاف بينها في حدة القبلية إلى الموت باسم الجهاد باسم إقامة الدولة الدينية.

بشكل عام لا يختلف داعش عن أي تنظيم سياسي ديني إلا في حدته على أرض الواقع، وجرعة الموت التي يمارسها داعش أكثر من غيره هي ما جعله منبوذا، وقد تكون محرجة لبقية التيارات الإسلامية الأخرى التي تقف على نفس الأرضية الفكرية، فهي جميعا تضع مشروعها الفكري والديني كبديل عن المشروع السياسي الذي قامت عليه أكثرية الدول العربية الحالية في حدودها الإقليمية المعروفة؛ إذ تناهض هذه الأصوليات المشاريع السياسية القائمة، وتضع مشاريعها كبديل عن المشروع الأساس، وربما كان هذا بسبب ضعف المشروع الوطني المطروح من قبل الدول العربية؛ خاصة لدى تلك الدول التي قامت على مشروع القومية أكثر من غيرها كونها قامت على الرؤى الأيديولوجية النضالية أكثر من المشروع التنموي؛ لذلك تطرح الأصوليات الحركية نفسها كنوع من ردة الفعل المضادة لهيمنة الأحزاب الحاكم حتى أصبحت هذه الأصوليات مؤثرة على الاستقرار السياسي في غالبية الدول العربية، وجميعها تتكئ على فكرة الثورية والانقلاب الراديكالي، ومن هنا تنشأ وتتكرر بؤر التوتر السياسي في هذه الدول، كما أن الشعارات التي قامت عليها إنما هي شعارات مثالية لم تطبق على أرض الواقع كالديموقراطية التي كانت تنادي بها بعض الدول العربية، ومع انهيار المشاريع العربية وإقناعها يظهر القبول لمثل هذه التنظيمات بوصفها تنظيمات طوباوية تقوم على المعطيات الدينية التي يقوم عليها غالبية المجتمع العربي مع اختلاف بين مجتمع ومجتمع في الحدة، والانخراط الكبير في داعش يجعل الحديث حوله بوصفه أكثر التنظيمات عنفا متساوقا مع قبول الفكر الذي تحمله غالبية التيارات السلفية الجهادية التي تنتشر في طول البلاد العربية.

الأسس الفكرية التي تنتظم الخطاب الداعشي تكاد تنطبق مع غالبية الخطابات الدينية التي يحملها معظم المنتمين إلى الخطاب الديني، لكن يبقون على اختلاف في مسألة التطبيق على أرض الواقع، فظاهرة التكفير مثلا على الرأي أحد أكثر الأمور المقلقة في الخطابات الدينية، كما أن الموقف من المذاهب الأخرى يكاد يكون عنيفاً وعشوائيا في التصنيف، إضافة إلى مفاهيم جهاد الدفع والطلب ومفاهيم الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وفكرة ولاية المتغلب، ومفهوم الخلافة الذي يكاد يكون أحد أهم المحاور التي تشترك فيه غالبية التيارات الإسلامية حتى المعتدلة منها وقليل من يتجاوزها.

الأزمة أعمق بكثير من مجرد انحراف فكري من قبل شباب التنظيمات وداعش أحدها، وإنما تكمن الأزمة في مفهوم علاقة التدين بالواقع أو أزمة الذات الإسلامية مع ذاتها وعلاقتها بالمتغيرات كالهويات المتعددة داخل الجسد الإسلامي الكبير. إنها أزمة الذات القاصرة مع الآخر المختلف بين الذوات الإسلامية المتعددة، كالمذاهب أو الأقاليم أو الأعراق المختلفة داخل الطيف الإسلامي، ويصل التطرف بل يصل الأمر إلى التطاحن المسلح بين مختلف المذاهب الإسلامية كما يحصل في العراق وفي سورية طيلة السنوات الست الماضية، أو ربما أقل بقليل من خلال الشتائم المتبادلة بين بعض رموز تلك الأطراف، حتى صار رموز التسامح من داخل منظومة المذاهب لا تساوي شيئا عند رموز التطرف، ويبقى العالم الإسلامي يصارع في أكثر من مكان، وفي أكثر من قضية، فضلاً عن صراع العالم الإسلامي مع ذاته وأطيافه المختلفة، وهنا تضيع مشاريع التسامح وأطروحات التعايش سدى، وما توأما داعش إلا المرحلة الأخطر في قضية الموقف من الآخر، حتى لو كان هذا الآخر والد الشاب المنتمي إلى داعش أو أمه أو أخاه، فالفكرة المهيمنة أبعد بكثير من أي توصيف مباشر، إذ تتعدد مستويات القراءة لظاهرة الإرهاب، ويجب أن تتعدد لكي يمكن الوصول إلى بنية المشكلة الأساس في مدى انخراط الشباب في هذه التنظيمات، ونحتاج بعد الصدمة إلى تعميق الأسئلة أكثر وأكثر، والوقوف على البؤر الفكرية التي تقود إلى ما قادت إليه حتى لو كانت هذه البؤر محرجة لخطابنا الديني الذي نقف عليه جميعا.