لا شك أن الوطن يفخر ويعتز بكل تجربة وطنية ناجحة، أيّا كان صاحبها؛ رجلا أو امرأة، فردا أو مؤسسة، مادامت تبرهن على قدرة وتفوق، وتؤكد ولادة اقتصاد وطني حقيقي، يخدم المجتمع ويؤكد فاعلية مواطنيه. ولعل من التجارب التي تستحق الرعاية، وفق هذا التصور الوطني الداعم، تجربة الأسر المنتجة التي صارت تشكل اليوم محورا رئيسيا من محاور النشاط التجاري، وبابا من أبواب الاقتصاد الوطني يحتاج إلى متابعة وضبط.
موضوع الأسر المنتجة اليوم من أهم الموضوعات الاقتصادية التي تحتاج إلى التفاتة الجهات المسؤولة ودعهما، فتلك الأسر فضلا عن إسهامها في سد حاجتها الاقتصادية وإغلاق باب العوز الذي يكلف الضمان الاجتماعي مبالغ طائلة، تمثل رافدا مهما للاقتصاد الوطني ونموذجا مشرفا للصناعة المحلية الخفيفة التي ما زلت بحاجة إلى الاعتراف والتشجيع.
وإذا ذهبنا نتتبع المجالات التي تشتغل فيها تلك الأسر وتعلن عنها من خلال حساباتها على مواقع التواصل فسنجدها متنوعة وكثيرة، منها الطعام والحلوى والشوكولا، والملابس والحلي والإكسسوارات، والتحف والهدايا وزينة المنزل، والمفارش والأغطية وسجاد الصلاة، والتصوير، وأخيرا تسويق المنتجات للشركات المحلية والأجنبية. هذا التنوع يعني أننا أمام فرص حقيقية لخلق سوق وطنية، تغني منتجاتها المواطن عن استهلاك كثير من السلع المستوردة، وتؤكد أيضا إمكانية تطوير تلك الصناعات والحرف البسيطة لتستوعب منتجات أخرى يحتاجها المستهلك المحلي.
ولأن تلك الأسر تعمل من منازلها، وقد لا تستوعبها المبادرات الخيرية المؤقتة التي يعلن عنها من حين لآخر، في صورة بازارات أو أسواق، فإن عددا كبيرا منها يتعرض للقمع والمصادرة، والمشكلة دائما هي عدم وجود تصريح مزاولة مهنة. والواقع أن الحصول على التصريح في حد ذاته يمثل مشقة قد لا تستطيع كثير من الأسر المنتجة تحملها، فهناك من لا يملك إمكانية فتح محل ليستخرج الرخصة، ومن هنا تأتي الاعتراضات المتكررة التي نقرؤها من حين لآخر في الصحف.
ولأن الموضوع مهم ويخص الوطن والمواطن، فإن تأجيل النظر فيه أو تركه لاجتهادات فردية من موظفي البلديات لن يكون مجديا ولا حاسما. تلك الأسر بحاجة إلى الدعم والتشجيع، ومنتجاتها بحاجة إلى الرقابة التي تجعلها مطابقة لمقاييس الجودة التي تتطلبها كل صناعة، وهذا يلقي بالمسؤولية كاملة على وزارة التجارة ووزارة الصناعة والغرف التجارية في المناطق والإدارات.
إن تجاهل تلك الأنشطة وتركها تعمل في الخفاء وتعلن عن ذاتها دون رقابة، أو قمعها ومصادرة منتجاتها، ليست الحلول المثلى التي تدعم المواطن وتشجع المنتج الوطني، لذا فمن الضروري أن تتدخل الحكومة بسن القوانين واللوائح التي تنظم عمل تلك الأسر، وتحفظ حقوقها، وتحميها من جشع كبار التجار أو استغلال الجهات الرقابية.
تشجيع تلك الأسر ودعمها مهمة الدولة أولا وقبل كل شيء، فالدولة هي القادرة على فرض هذا النشاط الوطني على سوق العمل؛ لذا فلا بد من وضع الأنظمة والضوابط، وافتتاح المعاهد لتدريب المواطنين والمواطنات، ثم توفير الأسواق والمتاجر الحكومية التي تؤجر المحلات لتلك الأسر بأسعار مناسبة، بعيدا عن مساومات أصحاب الأسواق والمتاجر الكبيرة وضغوطاتهم. وحين يحصل ذلك ستجد تلك التجارة الوطنية طريقها إلى النمو والازدهار، وربما إلى العالمية ذات يوم.