يؤكد الباحث الفرنسي جوزيف ياكوب في كتابه "ما بعد الأقليات بديل عن تكاثر الدول" أن مطالب الأقليات تتلخص في المساواة، والكرامة، والإخاء بين جميع البشر، وعدم التفرقة والمعاملة التفضيلية، والحق في تقرير المصير.
ويعتبِر (ياكوب) أن أوروبا هي مصدر الدول في شكلها الحديث، رغم كل ما أشعلته من حروب داخلها وخارجها، غير أن الأقليات الساعية إلى نموذج الدولة الأوروبية تعاني من مأزق نظري وسياسي، فما إن تصل إلى السلطة حتى تعيد إنتاج نموذج الدولة- الأمة الأوروبية الذي تنتقده بشدة، إذ يبدو أن الحركة القومية تعود من جديد كما كانت عليه في القرن التاسع عشر، يعود فيها النزاع القديم إلى حواضر العالم، على الرغم من أن مفهوم الدولة- الأمة في أوروبا قد تجذّر على أساس المواطنة والانتماء المدني والتجرد من الجماعات الإثنية وربط الفرد بجماعة مصيرية، وهذا ما لا يمكن تصوره خارج الفلك الأوروبي، حيث يطغى الانتماء الإثني على الانتماء المدني.
ويرى (ياكوب) أنه كان لزاما على العالم العربي إيجاد طريقته الخاصة ومفهومه الخاص فيما يخص العقلانية، والتوازن بين السلطة السياسية والروحية، واستقلالية الفرد وتبعيته للجماعة، والمجتمع المدني وعلاقته مع الدولة ومؤسساتها، فقوة المجتمع المدني واستقلاليته تنبع من دون تدخل الدولة، على ألاّ تتم تنمية "الفردية" على حساب الانتماء الجماعي.
مؤكدا على أن وحدة الأمة العربية تمثلت بشكل أساسي في اللغة العربية، والإرث التاريخي والذكريات الناجمة عن الآلام والأحلام في وقت واحد، وأن الأكراد والكلدان الآشوريين والبربر-وأقليات أخرى- هم "الثغرات" في نسيج الدولة القومية العربية المطلقة، ويضاف إلى ذلك "الإسلاموية" التي تهدد تقويض أسس الأمة العربية واستبدالها بالانتماء إلى جماعة دينية متجاوزة للقومية، ترتكز على عمومية مجردة ومختزلة وغير ممركزة ولا تاريخانية.
ويعرّج المؤلف على بعض المواثيق العربية لحقوق الإنسان، وتحليل النظم المجتمعية والتربوية في بعض الدول العربية، ملمحا فيها إلى تاريخ طويل من التناقض في قضية قبول الأقليات الدينية والعرقية في أنظمة سياسية عربية تدّعي أنها علمانية، كما تناولَ المؤلف هجرات الأقليات بسبب الضائقة الاقتصادية من جهة، والتسلّط السياسي والنزاعات والحروب من جهة أخرى، الأمر الذي قوّض أعداد هذه الأقليات في العالم العربي وخاصة في العراق وسورية، مؤكدا أن النزعة القومية والأيديولوجيا الدينية الإقصائية قد تفضي إلى مزيد من الاستبعاد للمواطنين الذين يفترض أنهم غير عرب أو غير مسلمين، ويؤكد جوزيف ياكوب أن الخطر الجسيم القادم هو "أسلمة" البلاد العربية، مما يجعل السكان في حالة خوف مبرر يحثهم على سلوك طريق المنفى.
وبما أن كتاب (ياكوب) الذي نحن في صدد قراءته الآن قد صدر قبل ثلاث عشرة سنة، فإن الوضع الحالي للأقليات في المنطقة العربية-في ظل الصراعات والحروب الأهلية- يزداد سوءا، حيث انتقلت من التمسك بالهوية القومية إلى التمسك بالهوية الدينية (الطائفية) المبالغ فيه؛ مما أسهم في إذكاء جذوة تاريخ الصراعات الطائفية في المنطقة العربية، وبروز ظاهرة التمحور الطائفي، والعنف، والكراهية، ونزعة الانتقام بناءً على الهوية، ولذلك فإن تقسيم سلطات الدول المركزية من خلال إقامة حكم ذاتي داخلها (إقليمي أو محلي أو بلدي) يعتبر حلا.
لكن (ياكوب) يدعو إلى أهمية النظر في النموذج السياسي "الهجين" المتجانس والمتوازن، المؤدي إلى رسم حدود إنسان الغد "المتعدد المنابت"، وهو الإنسان الذي تسهم العديد من الثقافات والبلدان في تكوينه، باعتبار أن المجتمعات هي مجتمعات متعددة الثقافات، أي أنها عمليا "هجينة"، وسوف تعاني المجتمعات المتصفة بتنوع وتعدد الجماعات والهويات من الآلام خلال فترة المخاض الأولى، وستتعاقب الأيام والمصائب عليها في الحقبة الانتقالية، ولكن ستؤدي هذه التعددية الثقافية إلى نمط حضاري قابل للحياة!.