لم يكن رحيلاً عادياً، رحيل الشاعر العاميّ الكبير سعد بن جدلان، حتى وإن مرره الإعلام في شكل أكثر من عادي.

قرأت وشاهدت ردود فعل كثير من الصحف الإلكترونية والقنوات الشعرية المتخصصة تجاه رحيل بن جدلان، وهي وإن كانت من الباب الإنساني تُشكر على تغطياتها الخبرية، والسيل العارم من المراثي والشيلات، إلا أنها طرحت الكثير من المواد الإعلامية الأرشيفية والجديدة التي لا توازي حجم الفجيعة الإبداعية في وفاة بن جدلان، والفراغ الذي تركه.

أظن أن المطلوب الآن من مؤرخي ونقاد الشعر العامي، ومن الإعلام المختص أيضاً، هو إظهار القيمة الفنية لتجربة بن جدلان الشعرية الطويلة والمُبهرة، أكثر من الحاجة إلى شيلات جنائزيّة ومراث لا شعر فيها، وبرامج سطحية التناول، تمتدح بن جدلان الشاعر، فالمهم الآن ليس في أن نقول: بن جدلان شاعر عظيم، بل أن نقول: لماذا بن جدلان شاعر عظيم.

بن جدلان شخصية فيها الكثير من جوانب الأسطرة، على مستوى شعره الرائع وحتى على مستوى شخصه وسلوكه، وهو في ذلك شخصية نادرة في محيط ساحة الشعر العامي، التي يتناسخ فيها الشعراء وتتناسخ فيها الشخصيات والسلوكيات، ويتناسخ فيها الشعر مثلما تتناسخ القطط السياميّة، ولكن بن جدلان بقي مختلف الشعر، مختلف السلوك، مختلف الشخصية.

علاقة بن جدلان بالإعلام كانت علاقة شائكة، أشبه بعلاقة الحب من طرف واحد، ففي الوقت الذي كان الإعلام يتلهف ويتسابق على جديد بن جدلان، كان هو في قمة اللامبالاة بالإعلام وشخوصه وقنواته وصحفه، كان مخلصاً فقط مع الشعر، ومع عزلته الخاصة في فضاءات القصيدة، فهو نموذج حقيقي لنظرية: الحديث حول الشعر إفساد للشعر، ولهذا بقي متوحداً مع القصيدة، وليس مع الوسط الإعلامي، كان صديقاً لقصيدته، صداقة تغنيه عن عقد صداقة مع الإعلام أو سواه.

شعره عظيم، وشخصيته عظيمة، وفيه نزق وفوضى الفنان غير المتآلف مع محيطه، والمتمرد عليه دائماً.

انتهى بن جدلان، وبقي الجدل حوله.