فجأة يخرج علينا فرد أو مجموعة أو مطبوعة أو قناة دون سابق إنذار، لتبدأ معه سحب المدائح تهطل على بلادنا قادة وعلماء وأفرادا.
هكذا تبرز مثل هذه النبتات الفطرية الطارئة بلا سابق معرفة أو تجربة وتسهب في الإشادة بنا دون حد وبلا ملل أو مبرر، وقد تتولى الدفاع عنا لكن من خلال شتمها لكل من يخالفنا الرأي أو النهج أو السياسة، بل على نحو غريب ومضجر ستجد أن هؤلاء الطبالين وفي مزايدات رخيصة يتحولون إلى ملكيين وسعوديين أكثر منا. يحدث كل هذا بسبب سوء إدارتنا للعلاقات العامة، وسوء تقديم انفسنا للآخر، وسوء اختيارنا لمن يتولى هذه المهام، والأمر ليس جديدا أو طارئا، فلقد وعيت منذ الصبا على مجلات لبنانية رخيصة وهامشية لا تكاد توزع في بلادها شيئا ولا يعرفها أحد، وكل نسخها المطبوعة توزع فقط داخل بلادنا لكأننا لا نعرف أنفسنا أو نحتاج إلى من يقدمنا إلينا، فيما كان العكس هو الأولى، لكن فكرة الإصدار من البداية هي مشروع استغلال وضحك على ذقوننا.
مشكلتنا منذ البدايات المبكرة للإعلام الموجه أننا لم نكن نحن الذين نختار الميدان ولا أدوات المعركة، ربما لأننا لا نحب أن نتعب أنفسنا، ولهذا كنا نستقبل بطبيعتنا وعفويتنا كل الذين كانوا يفدون إلينا من إخواننا العرب الذين يتولون تقديم عروض خدماتهم لنا في هذا المجال، بعد أن يقدموا لنا أنفسهم بصورة مزيفة ومغلوطة، ولو كان حريا بنا أن نقع في الخطأ مرة واحدة لرضينا، فما بالك ونحن كنا وما زلنا نقع في خطأ اختيار الذين يخدموننا في الإعلام الخارجي مرة تلو المرة وسنة بعد الأخرى، وكل حصادنا وجهدنا في هذا الجانب يتولاه المتردية والنطيحة من الذين لا ناقة لهم ولا جمل في مجال الإعلام وليست لديهم المهارة التي تقدمنا بشكل منصف، وتجلو الغبش وسوء الفهم عن صورتنا المغلوطة لدى الآخر، بل على العكس من ذلك فإن كثيرا من الاجتهادات الإعلامية الخاطئة كانت تسيء لنا من حيث أرادت أن تحسن إلينا، وكما يقول المثل "ليتنا من حجنا سالمين".
وللأمانة لم أجد في العالم أحدا أكثر منا مستمرا في تلقي اللدغات من جحر الإعلام الرخيص، وكنا والله في غنى عن التماهي والوقوع المتكرر في هذا المطب لولا أننا لا نخطط ولا نستقرئ ولا نستشير الراسخين المخلصين في هذا المجال، لكننا نتعمد في كل مرة أن نصنع أدواتنا فنفشل في الغالب تباعا مع الممسوخين من أنصاف وأرباع المواهب.
نعم فمنذ أن دخلنا مجال الإعلام الخارجي استخدمنا مجموعة من السماسرة وبياعي الكلام، وطبعا فإن سوء اختيارنا قد فتح المجال لعدد من المتكسبين ممن لم تكن لهم علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالإعلام، لكن تمويلنا لهم جعلهم ينحون جانبا عملهم في قدور المطابخ والمشاوي أو الحلاقة، ويأتون إلينا بعروض إصدار المجلات كما كان يحدث بالسابق، ثم تحولوا لاحقا إلى الفضاء من خلال إنشاء قناة تلفزيونية ثم دعمها بالمعلن المحلي، وهكذا تخرج طبخاتنا الإعلامية وهي تعج بالأدخنة والزفر. لست في وارد ذكر أسماء قوائم من الذين تسلقوا ودخلوا علينا من نوافذ الإعلام يحملون طبولهم ثم خرجوا وهم يشتموننا، فهم معروفون للجميع. آخر هؤلاء صاحب قناة المستقلة، وللعلم هو مالكها ومعد برامجها ومقدم فقراتها ومخرج فتراتها ومهندس ديكورها، وهو من يفتح بابها صباحا ويغلق بثها مساء. هو الأول في هذه القناة وهو الآخر وهو الفواصل وهو كل شيء في كل شيء، وكان يسبح بحمدنا ليل نهار بشكل مكشوف ليس فيه إتقان الحبكة التي تسوغ مواقفه عند من يشاهدونه، لكن فجأة ربي يعيشك قفل "البزبوز" وانقطع المدد وجف الينبوع، فانقلب هذا الصاحب على عقبيه، وأخذ مثل كل السابقين يرعد ويزبد ويهدد ويتوعد ويلطم ويشتم "برشا" وسينساه التاريخ كما نسي كثيرين قبله، لكنني أخشى أن نكرر أخطاءنا ونتبنى عاهة جديدة ينبطح فيها حينا من الدهر ثم ينكص على عقبيه ثم ينقلب إلينا مسعورا.