لا يزال والدنا الكريم: (الحلم العربي) في غرفة الإنعاش بعد أن تعطلت بعض حواسه الخمس وتهاوت من حوله الجهات الأصلية والفرعية. لا أحد يسأل عن صحته ولا عن أخباره إلا نادراً أو في مواسم الأعياد، حتى أصبح يعيش في عزلة شبه تامة عن مجريات العصر وما فيه من نجاحات باهرة يدهشه ألا يرى أبناءه يسهمون فيها بشكل جيد، وأكثر ما يؤلمه أن أغلب الزوار والسائلين لا يأخذونه في نزهة حول العالم ليرى ويتطور، أو حتى يتركونه يتابع أخبار الدنيا بعيداً عن همومه اليومية مع المغذيات والإبر والضغط والسكر، بل إن الطيبين من بني يعرب لا يُسلونه في شيخوخته المتأخرة ـ إن فعلوا ـ إلا بأخبار الكهوف وذكريات النكسة وحكايات الصمود والتصدي، وبالتالي فهو يثق ألا جديد في انتظاره إن تيسر له الخروج من محنته، بل ويعرف أن الحديث عن إسرائيل والمقاومة والمفاوضات لا يزال ندياً كما تركه قبل عقود، ولأنه لم يُؤخذ على محمل الجد ـ طوال تاريخه ـ فهو لا يريد أن يفيق من الغيبوبة ولا أن يعود للركض من جديد على ألسنة المطربين والشعراء الذين طالما خذلوه في اللحن والكلمات.. والدنا الكريم يشعر بخيبة أمل كبيرة في الذين يرسلون له الأخبار والصحف والمجلات، فهي لا تفتح النفس ولا تعيد إليه شهية الحياة كما يقول، ولأنه عتيق جداً فهو يعرف الكثير عن جمالياتها ويود ـ ولومن باب التسلية على الأقل ـ أن يصفوا له المواقع الخلابة التي لا يصلها البارود والقصف والمفاوضات وحليمة بولند، وأوراق فتح وحماس العصية على التوقيع، لكنهم لا يفعلون. وهو ما يفاقم من مرضه وحالة اكتئابه.. حين زرته في المشفى لآخر مرة بدا لي أنه لم يعد يهتم كثيراً بما يجري تحت الطاولة، إذ يبدو أنه لم يجرب أصلاً ما فوقها حتى يستطيع الحكم، فصار ـ وبالتعود ـ يأكل على السرير وينام تحت الطاولة! وحين نبهته أن ما يفعله لا يليق بسنه أخبرني بأن ذلك جزء من اللعبة السياسية التي لا يحق لأمثالي أن يسأل عنها. يعترف الحلم العربي بأن المصير المشترك الذي أفنى حياته وهو يدافع عنه ويتغنى بأهميته في كل مكان، قد أصبح شيئاً من الماضي، وأن ما هو موجود حالياً يمكن وصفه بالاحتيال المشترك أو بالأحرى علاقات عابرة لزبائن التقوا بالصدفة في صالون حلاق، ويدلل على ذلك بأن أغلب الذين جاؤوا لزيارته كانوا مبتسمين، ويتصافحون ويأخذون بعضهم بالأحضان، لكنهم بمجرد أن يخرجوا من حجرته يتطاحنون ـ إعلامياً ـ بحجة الدفاع عنه والحرص على صحته! بل ويحرضون أطفالهم في مواسم معينة على قراءة داحس والغبراء قبل النوم وفي طابور الصباح..

الحلم العربي كفر ـ فيما يبدو ـ بأغاني القومية والنضال ومزاعم الوحدة، ولم تعد تحركه أغنية: أخي جاوز الظالمون المدى، فيثور أو يغضب أو حتى يكتب قصيدة تلقى في ذكرى النكسة أو النكبة أو سقوط بغداد، فذكريات الأحزان كثيرة ـ كما يقول ـ ولم يعد الوقت ولا الصحة ولا حتى الرغبة تساعده أن يطارد المناسبات أو حفلات التأبين، لكنه أسر لي بأنه سيحاول ـ إن طال به العمر ـ أن يكتب قصيدة واحدة تصلح لكل المناسبات كي يواكب الأحداث والفواجع! وهو يشكر كل الذين وقفوا معه في وحدته الطويلة بأغنية (رجب حوش صاحبك عني) و(بوس الواوا) ويقول بأن تلك الأغاني هي التي جعلته جميلاً في عيون أبنائه وأحفاده ولولاها لوصفوه بالرجعي والجامد الذي لا فائدة منه، الحلم العربي يعيش صراعاً رهيباً بين الماضي والحاضر، الخصوصية والعولمة، وصراع الوجود والحدود، والهوية واللاهوية، ويقول بأن هذه الثنائيات التي حاول شرحها للناس في بدايات شبابه وتشكله ـ و يكثر الجدل حولها حالياً ـ ما هي إلا مضيعة للوقت! فأغلب أبنائه وأحفاده اليوم لا يعرفون حدود 67 م ولا يفرقون بين صورة القدس وصورة قبة الصخرة.. الحلم العربي تغير كثيراً ويبدو أن المحن هذبت من طموحاته بشكل كبير فلم يعد ذلك الكهل الجهوري الصوت الذي قرأنا عنه في المدرسة، والذي كان يتمنى من قلبه أن يعيش حتى يرى ذلك اليوم الذي يخترع فيه أبناؤه صاروخاً، وإبرة خياطة، ويزرعون قمحاً وحباً يكفيان جميع القادمين، بل إن غاية أمانيه حالياً أن يرى الصومال واليمن تصلان إلى المباراة النهائية في كأس العالم، وأن يأخذ صورة تذكارية قبل الرحيل مع سَمِيّه الحلم الأميركي! انتهت زيارتي للحلم العربي وقبل خروجي أهديت له شريط كاسيت فيه أغنيته المفضلة (الأرض بتتكلم عربي..) فسألني مباشرة: أين هي ومن هي؟ ثم بدأ يهذي بما لا يليق. فلم أملك إلا أن أدعو له من قلبي وبالنيابة عنكم: ربنا يشفيك يا حاج.