ما تم بين تركيا والكيان الصهيوني من الاتفاق على تطبيع العلاقات اعتبره الكثير، لا سيما المنتمين إلى الفكر السياسي الإسلامي، مفاجأة، ورأى بعضهم أن الأوضاع الملتهبة قد فرضته في صيغة إدانة لكنها تميل إلى الاعتذار للقيادة التركية، وصرح بعضهم بالإدانة، لكنها إدانات باردة يسبقها إشادة بإردوغان وما قدمه لشعبه وما قدمه للقضايا الإسلامية.
وجميع من قرأت لهم في هذا الصدد من المتابعين الإسلاميين يَغْفَلُون أو يُغفِلُون عمداً كون العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني إستراتيجية للجمهورية التركية منذ نشوء الكيان الصهيوني سنة 1948، بل إن علاقة الجمهورية التركية مع الصهاينة اليهود كانت قبل نشوء كيانهم، أي منذ قيام الجمهورية التركية 1923، بل من المعلوم تاريخيا أن لليهود دورا كبيرا في إنشاء هذه الجمهورية على أنقاض الدولة العثمانية. وليس معروفا أن حزب العدالة والتنمية الذي يتمتع مؤسسوه بخلفية دينية ثار رسميا على المبادئ التي قامت عليها هذه الجمهورية، بل لا يُعرف أنه أدان هذه المبادئ أو تنصل منها.
حقا: إن مؤسسي حزب العدالة والتنمية وقفوا ضد الحرب على الدين ومظاهره، والتي كانت الأحزاب العلمانية الحاكمة في تركيا تشنها باستمرار وبمغالاة ممقوتة.
وحقا أيضا: أن مؤسسي حزب العدالة والتنمية لا يخفون تعاطفهم مع التاريخ العثماني. كل ذلك صحيح إلا أن العدالة والتنمية ما زالوا حريصين على التركيز في الإعلام على علمانية الدولة بشكل مستمر، بل إن أحد مستشاري الرئيس إردوغان لام بشدة الإسلاميين العرب في أسلوب إشادتهم بتركيا في ملتقى "شكرا تركيا"، والذي وصفوا فيه إردوغان بأوصاف لا تليق برئيس علماني، وقال: إن هؤلاء العرب أسقطوا دولهم بسبب هذه الشعارات، ولن نسمح لهم بإسقاط تركيا.
إذًا تركيا اليوم ما زالت تؤمن -ولو ظاهرا- بمبادئ الجمهورية التركية وعلاقاتها الإستراتيجية. فتجديد العلاقات التركية مع الصهاينة ليس أمرا مستغربا إلا في حال واحدة، وهي لو كانت تركيا الحالية تنصلت رسميا من مبادئ الجمهورية الأتاتوركية، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
وحتى يحدث ذلك تبقى الإستراتيجية التركية على ما هي عليه، ومن الظلم لها وللإسلام أن نحاكمها على مقتضيات الإسلام وهي لم تقر به دستورا، بل العدل والنظرة الواقعية هي محاكمتها إلى المبادئ التي قامت عليها الجمهورية التركية، وهي العلمانية.
يؤكد لنا ذلك الدكتور داود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق في حكومة حزب العدالة والتنمية التركي، في كتابه الإستراتيجية العميقة، إذ أكد في صفحة 452 أن العلاقات التركية الإسرائيلية والتركية الإيرانية علاقات إستراتيجية، والحرص عليها لئلا تتولد حالة من العزلة في التوازن التركي العربي الإيراني.
فالمقصود بالعلاقات التركية الإسرائيلية "حسب أوغلو" هو المحافظة على التوازن التركي في مواجهة العرب والإيرانيين. وحين ننظر إلى الواقع نجد أن العلاقات التركية الصهيونية تخلفت منذ حادثة سفينة مرمرة في الجانب الدبلوماسي فقط، أما العلاقات التجارية والعسكرية فلم نعلم أنها تخلفت إلا بمقادير طبيعية يفرضها التجافي الدبلوماسي، وبذلك لا يمكننا القول كما يقول البعض، إن تركيا اختارت عمقها الشعبي العربي الإسلامي ورفضت إسرائيل، أو إنها اختارت الأمة الإسلامية على العلمانية أو القومية، أو غير ذلك من المقولات التي يرددها إخواننا من المحللين الإسلاميين بشكل كبير، بل الذي ينبغي قوله هو أن تركيا ما تزال ترى خيارها الصحيح هو مبادئ الجمهورية التركية الأتاتوركية، وأن كل ما فعله حزب العدالة طيلة السنوات الـ12 الماضية، هو ثورة لتصحيح هذه المبادئ وتجديدها لا ثورة عليها.
مشكلة المحللين الإسلاميين السياسيين هي المغالاة في حب كل من أظهر المشاعر الإسلامية، حتى يأتي يوم ويصدمون فيه ويكتشفون أن أمنياتهم فيه كانت بيوتا من القش، لذلك تكثر انهياراتهم كلما صُدِمُوا في شخصية كانت تمثل لهم حلما.
حزب العدالة والتنمية حَلَّق بالإسلاميين العرب في عالم الأحلام، بسبب نجاحاته الاقتصادية، ورفعه المظالم عن مدارس تحفيظ القرآن والمدارس الدينية، ووقوفه الإيجابي مع القضية السورية وأحداث غزة، ومساندته الإخوان المسلمين في مصر، وهذا التحليق في الأحلام من الإسلاميين العرب مع حزب العدالة، جعلهم دائمي الاعتذار للحزب في كل مواقفه التي يختلفون معه فيها، كموقفه من الشذوذ الجنسي كمثال صارخ للخلاف في مجال الأخلاق، وكموقفه من إيران كمثال صارخ للخلاف في مجال العلاقات السياسية. بل وقفوا معه حتى في ظلمه لحركة إسلامية تركية أخرى وهي حركة الخدمة، وصدقوا إعلام حزب العدالة في كل ما يقوله عنها دون تحريات، وجعلوا مشاركته في ظلمها خيارا لهم بدلا من السعي إلى المصالحة بينهما، مع أن الصلح خير كما يقول القرآن، ومع أن العدل هو السماع من الطرفين لا في تصديق طرف دون أخذ أقوال الآخر، لكن التحليق في الأحلام يفعل أكثر من ذلك.
الاستشكال على كل ما قدَّمتُه قد يأتي في السؤال التالي: كيف يصح القول إن تركيا حزب العدالة ما زالت على مبادئ الجمهورية التركية مع ما نراه من مواقف محمودة لتركيا مع القضايا الإسلامية، كالوقفة مع أهل غزة وسورية وبورما، هل هذه المواقف تتناسب مع مبادئ الجمهورية؟!
الجواب: نعم، هي تتناسب مع مبادئ الجمهورية من زاوية رفع الظلم والمطالبة بالحريات، فهذه مبادئ رفعتها الجمهورية التركية الأتاتوركية من قبل، ولا ننسى أن تركيا في زمن أتاتورك، وعصمت إينونو، وعدنان مندريس، حاولت تسويق نفسها في العالم العربي والإسلامي على أنها تقف مع قضايا التحرر العادلة، ويحضرني هنا موقفها في عهد عدنان مندريس من استقلال ليبيا، فقد كان مشهودا وقويا أشاد به مصطفى بن حليمة رئيس الوزراء الليبي في مذكراته.
نعم، أنا لا أُقارن الشعور الديني والالتزام الذي يوصف به الرئيس إردوغان ومن حوله بحال معظم رؤساء الجمهورية السابقين والموصوفين بضعف التدين في أنفسهم، بل ومحاربة مظاهره في كل تفاصيل الحياة التركية، لا أقارن بين الأمرين، وإنما أقول إن المواقف التركية المحمودة حاليا لا تتعارض مع مبادئ الجمهورية، ولا تعني أبدا أن تركيا قد طلقت العلمانية -كما يقولون- طلاقا بائنا.
موقف تركيا من مصر ومن إيران لو تم النظر إليه باستقلالية وحياد لدل على حقيقة التفكير التركي الوطني المصلحي، وليس القِيَمِي الأخلاقي كما يتصور الكثيرون أو كما يحاول الكثيرون أن يُصَوِّرُوا لنا.
فمعلوم أن المواقف المبنية على القِيَم والأخلاق تكون مطّردة لا تناقض بينها، بعكس المواقف المصلحية فإنها تظهر متناقضة حين نُحَاول تصويرها على أنها أخلاقية. فتركيا تقف موقفا صُلبا ضد الانقلاب في مصر وما حدث في ميدان رابعة على اعتبار أنه مناف للديموقراطية وحقوق الإنسان، ولهذا تقاطع النظام المصري وترفض التعامل معه.
ومع ذلك تقف موقفا متعاونا بقوة مع النظام الإيراني على الرغم من أعماله القمعية ضد الشعب الإيراني نفسه، وتدخله السياسي والعسكري في العراق وسورية التي يزعم حزب العدالة الوقوف مع شعبها ضد الأسد، لكنه لا يقف مع شعبها ضد خامنئي.
أيضا فقتلى ميدان رابعة -رحمهم الله- في أعلى تقدير لهم لا يتجاوزون الأربعة آلاف، ومع ذلك تقاطع تركيا مصر من أجلهم دبلوماسيا وتجاريا، وتؤوي المعارضين للنظام المصري وتفتح لهم الفضاء الإعلامي ليعبروا عن معارضتهم. في حين بلغ القتلى العراقيون والسوريون مئات الآلاف جراء التدخل الإيراني فضلا عن المهاجرين الذين تؤوي تركيا مليونين منهم، ومع ذلك تزيد مقادير التبادل التجاري والمشاريع بين البلدين عن مئتي مليار ليرة تركية، كما لا يُسمح بالهجوم الإعلامي على نظام إيران من داخل تركيا، بل إن عددا من الصحف والقنوات التي تهاجم النظام الإيراني تم إغلاقها بحجة انتمائها لحركة الخدمة. كما أن الحكومة التركية التي تُجَدِّد العلاقة بالصهاينة الذين دمروا غزة وقتلوا أهلها بالطائرات والصواريخ، ترفض أي علاقة مع النظام المصري بحجة أنه يحاصر غزة.
ما أريد الوصول إليه من هذا المقال: أن العاطفة لا ينبغي أن تكون حكما في التحليل السياسي وتقييم مواقف الدول والساسة.