لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ لأن المثقف الحقيقي موجود في كل بيت، إنه ذلك الشخص المنحاز لزوجته وابنته وأخته ضد المجتمع الذكوري المتسلط، إنه تلك المرأة المنحازة لحقوق الإنسان المستضعف في كل مكان، إن المثقف شارع طويل من نحت الذات يتأمله المارة بحسب أهوائهم، فبعضهم يراه مجموعة متاحف وأنتيكات وتذاكر سفر، وبعضهم يراه مجموعة كتب، وبعضهم يراه مجموعة قصائد، وبعضهم يراه مجموعة محكوميات ومنع من السفر، وبعضهم يراه مجموعة شهادات أكاديمية مع دورات في تطوير الذات، وبعضهم يراه مجموعة جوائز تكريمية ودعوات احتفال رسمية، وبعضهم يراه ويراه ويراه، والفيصل في كل هذا أن يكون المثقف الحقيقي مجموعة مواقف صادقة ونبيلة يناضل بقدر استطاعته دونها في سبيل الإنسانية وكرامتها بلا أيديولوجيا، ولا تهييج أعمى للفوضى والخراب، لأن المثقف الحقيقي دَرسٌ في الحرية بلا شروط، حدها كف الأذى عن الآخر، ومداها أنت في هذا العالم وإرادتك في طلب الحق والخير والجمال، وليس دَرسا في ثني الركب ذلاً للتابع وفتنة للمتبوع.

لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ لأنه يخاف الغوغاء، فيختبئ في برج خياله العاجي، رهانه ليس رهان الإسلاميين على توحش الشارع، وفوضى الحواس، بل رهانه على الزمن يستعيد فيه رعاة الغنم هويتهم الأصيلة، فإذا استعادوا هويتهم نزل راعي الغنم المثقف بمزماره ليسمعهم لحن أجدادهم القديم في حقولهم وبين قلاعهم وحصونهم القديمة، فترى الشارع وقد تحول إلى واحة من الغناء والفن، بدلاً من أن يكون مقفراً كمقبرة إلا من السيارات والمارة المتجهمين.

لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ لأن المثقف الحقيقي هو صاحب السؤال، فليس المسؤول بأعلم من السائل، إلا إن كان السائل يبحث عن تابع ومتبوع، عن شيخ ومريد، عن سيد وعبد، عن أيديولوجيا جديدة تعلمه ما يصلح لحياته وما لا يصلح، وتقرر عنه كل شيء، فالثقافة ليست تعليمات داعش لكيف تأكل وكيف تشرب وكيف تمشي وكيف تلبس وكيف تنام وكيف تصحو وكيف وكيف وصولاً لكيف تموت.

لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ لأن الشارع حالياً أعلى من المثقف، فالمثقف الحقيقي الآن يسحقه الشارع كل يوم، الشارع فج، الشارع قاس، الشارع لا يرحم، فقد اجتهد الإسلاميون في تحويل الشارع إلى مهرجان بامبلونا الإسباني، لإفزاع الناس عند أي طمأنينة فرح، أو مهرجان، فيهربوا من بلدهم لبلدان أخرى بحثاً عن الأمن النفسي واحترام حرية العائلة قبل الجبال الخضراء والضباب الدائم الذي قد يجدون مثله في عسير والباحة والطائف، ومن حق المثقف أن يخاف صنيعتهم، باستثناء المثقف الموهوب في الركض هنا وهناك، ليرهق ثيران الشارع، دون أن تصيبه قرونها، ولكن الموهوبين المغامرين في مصارعة الثيران بين المثقفين والمثقفات قليل، وأمن الشارع في احترام الحريات واجب على كل شباب وشابات الوطن، وليس واجب المثقف وحده.

لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ المثقف ليس بديلاً عن المطوع، المثقف هو أبي وأبوك منذ أفتى المطوع بحرمة التلفاز واشتروه لنا وتجاهلوا الفتوى، المثقف أنا وأنت منذ أفتى المطوع بحرمة الدش واشتريناه لأبنائنا وتجاهلنا الفتوى، المثقف هو ابني وابنك عندما يخلع برقع الشيلات عن أذنه ويستعيد صوت الموسيقى المجلجلة للموسيقار سراج عمر في (بلادي بلادي منار الهدى ومهد البطولة عبر المدى)، المثقف هو كل من يؤمن بالتغيير كضرورة حياة، المثقف كل من يملك رؤية مستقبلية تجعل مجتمعه يشارك الحضارات الأخرى خدمتها للإنسانية وحياتها الطبيعية، بدلاً من أن يجعل مجتمعه في خصومة مع العالم في الكرة الأرضية كلها.

لماذا لا ينزل المثقف للشارع؟ لأن السؤال خاطئ، فالمثقف هو خريج تراب الدروب الطويلة قبل أن تتحول إلى شوارع سوداء، هو سليل تاجر البقشة على ظهر الدابة، وسليل الرعاة والفلاحين والصُنَّاع، إنه ابن عم الفوال وصاحب البقالة، وما عدا ذلك فمخرجات نفطية مع منهج خفي جعلت راعي الغنم يتنكر لعصاه، والفلاح يتنكر لمنجله، والفوال يتنكر لجرته، والبقال لدكانه، وها نحن نعود من جديد نبحث عن ذاتنا وراء ما تنكرنا له، وبالنسبة للنوادي الأدبية، فهي متكأ للمثابرين من المثقفين وأشباههم من رجيع الإسلاميين، يرجون منصباً ما أو وجاهة ما، والغالب فيهم (كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء)، والاستثناء تراه هناك في شاب يجادلهم وينقدهم ويثور عليهم، إنه يسلك نفس طريق المثقف القديم في البحث عن حياة الأحرار، فإن وجد متكأ بينهم رضي ليثبت أن فيه كل العيوب التي كان يراها فيهم، فإن كان مثقفاً من تبرٍ نادر، فسيدرك أن الثقافة هي حياة سيزيف مع صخرته، وبروميثيوس مع ناره.