تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ عقد مضى احتدام معارك "كسر العظم" المدمرة بين الأقليات، توحي بوادرها باختفاء الأقليات الأضعف، إما بالإبادات الجماعية أو بالتهجير وإحلال أقليات أخرى مكانها، وفقا لمبدأ التغيير الديموجرافي، مما سوف يؤدي إلى تدمير الحضارة العربية الإسلامية بأيدي أبنائها، لا سيما في منطقة الهلال الخصيب.
ويمثل وجود "الأقليات" في العالم دليلا على تنوع التاريخ البشري وحيويته، فسكان الأرض عبارة عن مزيج هائل من الأقليات القومية والإثنية والثقافية والدينية والمذهبية، بما بينهم من مشتركات لغوية وقبلية وبدوية وبلدية (أبناء البلد الأصلي) والإقليمية والعابرة للإقليمية، وهذا ما يراه الباحث الفرنسي جوزيف ياكوب في كتابه "ما بعد الأقليات بديل عن تكاثر الدول" المترجَم بواسطة حسين عمر عن المركز الثقافي العربي، عام 2004.
وتأتي أهمية قراءة مثل هذا الكتاب الذي يتناول قضية الأقليات في ظل النزاعات والحروب الأهلية في العالم؛ ولا سيما في ظل ما تشهده منطقة الشرق من معضلات توحي بتغييرات سكانية وثقافية وحضارية وسياسية قادمة على مستوى الأقاليم والدول نتيجة هذه الصراعات، تشبه ما مرت به أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى.
إذ يؤكد (جاكوب) أن الحركات المطالبة باستقلال الأقليات التي انتشرت في العالم، تتكاثر في المجتمعات المدنية بطريقة معبّرة وتطرح حتى أسس الدولة للمناقشة، بعد حركة توحيد طويلة أدت إلى انتصار الدولة- الأمة في القرن العشرين، غير أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن تحطيمها؛ لأن السعي إلى الدمج المتعارض مع التفتيت يدفع إلى التمايز، مما يشكل منعطفا تاريخيا يفرض تغيرا في مفهوم الدولة القومية، وبالتالي الاعتراف بإمكانية توزيع سلطة الدولة، والحكم الذاتي والمحلي في إطارها، في عالم مركب وأحادي الجانب، ذي حركة مزدوجة تتمثل في الترابط الاقتصادي من جهة والانطواء على الهوية من جهة أخرى، حيث غزت الحداثة الغربية العالم بشقيها الاقتصادي والسياسي، وسقطت بذلك التدابير الرامية لبناء عالم متعدد الأقطاب أمام الهيمنة الأميركية وخياراتها التحالفية الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، ويستحضر الباحث في نظرته هذه المقولة التالية للرئيس الأميركي تيودور روزفلت: إننا لا نملك الخيار في لعب دور هام في العالم من عدمه، فقد قرر لنا القدر ومسار الأحداث ذلك.
ويرى جوزيف جاكوب أن التاريخ يُستعاد في أوهامه وأساطيره-بأثر رجعي- بشكل متجدد ونشط، بما يبين أن الإستراتيجيات السياسية المعتمدة إثنية مركزية، بينما يزداد حجم التجارة والإشهار الموجه للأقليات وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، حيث تشكل الأقليات نصف عدد السكان تقريبا، بمفارقة مذهلة تتمثل في عولمة مجتمعات يفترض أنها متجانسة وفي عالم يتجه نحو التوحد في عملية متناقضة.
وقد تعرضت الدول الحديثة للعديد من المحاولات الانفصالية، لكن ذلك لم يمنعها من الاشتراك والاندماج في اتحادات قارية وإقليمية اقتصادية وجمركية وسياسية وثقافية، وبالتالي فإن الاختلافات والتباينات لمعظم سكان دول العالم وانعدام التجانس فيما بينهم نتيجة الهجرات المتزايدة، لا تحول دون تشكل كيانات سياسية جديدة من غير صدامات خطيرة ولا آثار مزعزعة للاستقرار، يضاف إلى ذلك استخدام القوى العظمى-والشركات العابرة للقوميات- الحركات "الهويوية" كأدوات، مما يعني أن القرن المقبل هو قرن الأقليات؛ نتيجة ما تتركه العولمة على هامشها من شعوب وفئات اجتماعية متمحورة حول خصوصيتها وهويتها.
ورغم تأكيد (جاكوب) على أن خارطة العالم ترتسم من جديد، إلا أنه أكد أن ذلك لن يتم من دون خلق أضرار جسيمة على السلم والاستقرار العالمي، فالكثير من الدول مرعوبة من فكرة رؤية بلدانها تتمزق، كما تفكك الاتحاد السوفياتي وكما تشظت أوروبا الوسطى والشرقية، وعدد الدول في العالم البالغ 188 دولة مؤهل للتزايد والتضاعف خلال العقود القادمة، بل إن أوروبا الغربية نفسها ليست بعيدة عن هذه الحالة الانفصالية، ويقدّم المؤلف عدة نماذج لذلك ومنها: فالونيا، فلاندر، كورسيكا، كاتالونيا، غاليس وغيرها... وسوف أزيد على ما ذكره (جاكوب) بأن لحظة كتابة هذا المقال تزامنت مع إعلان نتيجة الاستفتاء الشعبي في بريطانيا التي قررت الخروج من الاتحاد الأوروبي، وربما تشهد الأعوام القادمة انهيار الحلم الأوروبي!