حين تطل على أبنية واشنطن العاصمة بنظامها المرتب والمهندس بشكل متناسق وغير شاهق لا يخطر ببالك أن في هذه المكاتب الهادئة من الخارج يتم طبخ معظم السيناريوهات والقرارات، وتعقد التحالفات وتحاك الخطط وتتشكل وسائل الضغط، وكلها تصب في دائرة صناعة القرار وتوجيهه ليؤثر في العالم كله، وخلف هذه النوافذ الزجاجية تقبع في الظل نخبة عقول العالم الفكرية والإستراتيجية والاقتصادية والسياسية والإعلامية، وعبرها تستطيع أن تعرف التوجهات والمؤشرات والتلميحات والتسريبات حول ما يجري وسيجري في السياسة الأميركية والسياسات العالمية التي تتقاطع معها.
في زيارة الملك سلمان لواشنطن في سبتمبر 2015، تحدثت مع بعض صحفيي الواشنطن بوست، والنيويورك تايمز الذين أشاروا إلى تلميحات الحكومة الأميركية بالتركيز على الأميرين القادمين بقوة كمؤثرين أساسيين في الساحة الإقليمية: ولي العهد الأمير محمد بن نايف، وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وقتها لم تتشكل السياسة السعودية بالشكل الذي هي عليه الآن، ولم تكن هناك الرؤية السعودية 2030، وبرنامج التحول الوطني 2020، والتحالف الإسلامي، واللجان السعودية المشتركة مع عدد من الدول، ووقتها لم يكن يدرك أحد من المتابعين أن زيارة ولي ولي العهد في يونيو 2016 تفوق التوقعات التي كانت في 2015.
في هذه الزيارة، فوجئت الدوائر السياسية والمالية والاقتصادية والتجارية والصناعية والتقنية، بقائد عملي حاضر الذهن، يتحدث معهم بلغة الأرقام، وبالتفاصيل عن السعودية الجديدة ورؤيتها للـ15 عاما القادمة بثقة ووضوح وإصرار إلى الدرجة التي أصبح فيها رؤساء الشركات والدوائر السياسية يطلبون لقاءات عديدة وسط جدول مزدحم لمحمد بن سلمان، بعد أن كانوا في البداية يوافقون على لقاءات يظنونها بروتوكولية اعتادوا عليها مع كثير من قادة الدول، وهذا ما عبرت عنه شخصية أمنية مهمة في لقاء مغلق بقولها: "الأمير السعودي الشاب مقاتل ذكي وموهوب يسعى بثبات لنقل العلاقة التاريخية من "البراجماتية" إلى "القيم العالمية المشتركة"، المملكة الجديدة تولد من المستقبل وعلينا أن نتوقع بتمعن كيف سيتغير الشرق الأوسط عبر سياساته الطموحة".
في العاصمة واشنطن تمارس لعبة التأثير عبر جماعات الضغط بشكل احترافي متعارف عليه، ولعل من المصادفة أن تكون إقامتنا في فندق ويلارد الذي انطلقت من بهوه كلمة "لوبي" واستخدمها الرئيس يوليسس جرانت قبل نحو 150 عاما، وفي بهوه التقيت عددا من كبار الباحثين والمفكرين المؤثرين في مراكز التفكير والبحوث والدراسات الذين يحدثونك عن خفايا السياسة ودهاليزها غير المنظورة، والتشابكات والمصالح والأشخاص المحسوبين على اللوبيهات المختلفة، ودورها وتأثيرها، يحدثونك عن خطاب أوباما عندما كان نائبا في مجلس الشيوخ عن ولاية ايلينوي عام 2004، ويربطونه بكل إخفاقات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ويستغربون من استغرابنا مما حصل ويحصل في عهده، وهو متوقع ومعروف، وعن الرجل الخطير جدا في مراكز التفكير، وبالتحديد في مركز الأمن الأميركي الجديد الذي أصدر تقريرا هذا الشهر عمل عليه عدد كبير من أهم الباحثين الأميركيين بعنوان توسع القوة والنفوذ الأميركي الجديد، هو بمثابة خارطة طريق للقرن الأميركي الجديد بعد أوباما، وليس من قبيل المصادفة أن يكون كاجان هو الذي أقنع هيلاري كلينتون بإعادة ترشيح نفسها للرئاسة للفترة القادمة، ودعمها بقوة بعد الترشيح مراهنا على فوزها على اعتبار أن أصوات الجمهوريين والديموقراطيين تبلغ نحو 60% من أصوات الناخبين، والمعركة سيحسمها المستقلون الذين يركز عليهم روبرت كاجان، ويؤمن بأنهم سيصنعون الفرق.
في واشنطن لوبيهات قوية عديدة كاللوبي اليهودي واللاتيني ولوبيهات منظمة وفعالة كاللوبي الإيراني المنقسم مع النظام وضد النظام وكلا القسمين لا يعملان لصالح العرب، وهناك لوبيهات بدأت تتشكل كاللوبي التركي، وأضعفها اللوبي العربي المنقسم على نفسه حد الوجع، وإن كان يجمعها شيء واحد فقط هو القضية الفلسطينية، ولكن حتى هذا الجانب نجدهم فيه متأثرين بحماس والتأثيرات الإيرانية، ولذلك فإن الموقف السعودي في مراكز التفكير وجماعات الضغط ضعيف جدا وغير مؤثر.
أثبتت زيارة الأمير محمد بن سلمان ولقاؤه بدوائر صناعة القرار السياسي والمالي والتجاري والصناعي في أهم 3 مدن أميركية هي واشنطن وسان فرانسيسكو ونيويورك، أن التواصل المباشر والصريح والشفاف معهم أهم بكثير مما كان يحصل في السابق من مئات الملايين التي كانت تدفع لشركات العلاقات العامة الأميركية أو الوفود السعودية الكبيرة المكلفة ماديا وغير الممنهجة بهدف تحسين صورة السعودية في الخارج، وفي الكثير منها ينعكس أثرها سلبا علينا، كما أكدت لقاءاتنا مع عدد من مراكز الدراسات والصحف الكبرى ووسائل الإعلام والمراكز السياسية، أننا نغني لأنفسنا، نقوم بدور المؤلف والملحن والمطرب والجمهور، ولا أحد درى عنا، والجميع هنا يصدق رواية الإعلام الغربي ودراسات الباحثين عن أننا مصدر الإرهاب، وعن الوهابية وحقوق الإنسان واليمن وسورية والعراق، وعندما نذكر لهم بالأرقام عن الدور السعودي والمساعدات الإنسانية في سورية وانتهاكات الحوثيين والانقلابيين في اليمن، ودورنا في مكافحة الإرهاب، تحس أنهم يسمعون ذلك لأول مرة، وكانت تعليقاتهم متشابهة "قد يكون كلامكم صحيحا ولكن لا نعرف ذلك، يجب أن تقولوا لنا هذا الكلام وليس لأنفسكم، الإيرانيون موجودون ومبادرون وأنتم غائبون".
قبل 14 يونيو كان المهتمون بالشرق الأوسط والخليج، وبشكل خاص بالسعودية، يعتمدون على تقارير مراكز التفكير والدراسات ووسائل الإعلام المختلفة، وعندما تجلس إلى هؤلاء الباحثين تتكشف لك خبايا من وراء ماذا؟ وكل دراسة من الذي قام بها؟ وما هي خلفياتهم؟ وممن يحصلون على الدعم والتبرعات؟ وبالتالي توجهاتهم، والعرب غائبون باستثناء الإمارات وقطر، وتجد أن هناك نحوا من 50 اسما هي التي تتكرر في وسائل الإعلام والمراكز معروفة توجهاتها، والأكثر مرارة أن هناك عددا كبيرا من محبي السعودية أو على الأقل مقتنعين بتوجهاتها وسياساتها في الغالب، لكنهم يفتقرون إلى المعلومات وإلى التواصل المباشر.
قبل 14 يونيو كانت بين يدي هؤلاء دراسات مركز السياسات الدولية المدعومة من الكونجرس ومركز الدراسات الإستراتيجية الدولية الذي أصدر عددا من التقارير سبقت الزيارة مثل الشراكة الإستراتيجية بين المملكة والولايات المتحدة 2016 "صدرت في مارس الماضي"، والاستقرار وعدم الاستقرار في منطقة الخليج العربي "يونيو 2016"، وأوباما وإستراتيجية أميركا "23 يونيو 2016"، ولكن بعد 10 أيام من الزيارة تحولت النظرة إلى الشراكة الإستراتيجية من المصالح المشتركة إلى التفاهم المشترك، وشعر الأميركيون بأن هناك رؤية جديدة وتعاملا مختلفا مع القضايا، يسعى إلى تجديد المملكة دون أن يزعزع استقرارها، وإعادة اختراع الاقتصاد وفق الرؤية السعودية، حسب تعبير الواشنطن بوست.
لا بد أن تتأسس على هذه الزيارة خطة واضحة لتكوين لوبي سعودي في مراكز التأثير، يعمل وفق إستراتيجية واعية وأهداف، وبفريق عمل واع مؤمن برسالته، وليسوا مجرد موظفين أقصى همهم الانتدابات والرفاهية والاستجمام مع عائلاتهم، وآخر همهم تكوين العلاقات وجمع المعلومات، لأن من لا يؤمن برسالته لن يقنع الآخرين بها، وأن تكون الزيارة منطلقا للتواصل المستمر المخطط له، لا أن ينتهي كل شيء بانتهاء الزيارة، فإذا كان ما بهر الأميركيين هذه الأيام أنهم سمعوا من التكنوقراط ومن الوزراء ومن القيادة السياسية، فإن ما يهم بعد ذلك أن نديم الطرق على مراكز التأثير والتفكير من قبل الباحثين والسياسيين والمفكرين والإعلاميين بشكل مباشر، وليس عن طريق شركات العلاقات العامة، فليست المستأجرة كالثكلى، ولا بد لمدمن الطرق
للأبواب أن يلجا.