تطرح السعودية في مرحلتها الجديدة عددا من المشاريع الاقتصادية والتنموية من أجل التقليل من الاستفادة من النفط والبحث عن مجالات اقتصادية جديدة، مما يعزز عملية التنمية خلال السنوات القليلة القادمة، لكني لست مخولا في الحديث عن الجوانب الاقتصادية الجديدة لعدم معرفتي بالمسائل الاقتصادية فلها مختصوها والمهتمون بها من الكتاب الذين يمكن أن يثروا الحديث فيها، لكن ما يهمني هو سؤال المواطنة داخل هذه التنمية، وهذا ما يحاول أن يقوم عليه المقال، ففي رأيي أن من أهم الأمور التي يمكن لها أن تربط وتعزز شعور التواصل الإنساني والحضاري بين شعب الدولة الواحدة يكمن في البعد عن المزالق السياسية، وإقحام الشعوب فيها، بحيث تكون هناك فرصة كافية جدا بعيدا عن المشكلات التي تستهلك الوقت والجهد حتى يمكن العمل على المشتركات الإنسانية والحضارية بين الأقاليم داخل الكيان السياسي الواحد بشكل عام، وخاصة في الجانبين التقني من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو من خلال الفن أو من خلال السياحة والجوانب الاقتصادية، ذلك لأنه مفهوم الهوية متحقق من قبل في هذه الدولة وتربطها روابط عديدة من قبيل الدين واللسان والنسب وغيرها، فالفن مثلا يردم تلك الهوة الواسعة بين الشعوب ويحقق ذلك الانتماء الإنساني المشترك بغض النظر عن الاختلافات الثقافية أو الإثنية، فضلا عن أن الاختلاف معزز لفكرة التعددية الثقافية المطلوبة حتى لا يكون الوطن شكلا واحدا أو يحمل فكرا واحدا لا من الناحية السياسية فحسب، بل حتى من الناحية الاقتصادية والثقافية والفنية والاجتماعية والدينية وغيرها، فالتعددية الثقافية على مستوى السعودية ككل من أهم المقومات التي يمكن الاعتماد عليها في خلق ثراء معرفي واجتماعي بين الشعب، فضلا عن أصحاب القرار السياسي.
لكن هناك عوائق بيروقراطية تعيق بناء علاقات المواطنة بين الناس من خلال الحقوق المشتركة لمواطني الدولة الواحدة ذات الكيان السياسي الواحد حتى على اختلاف الهويات أو تعدديتها. العوائق البيروقراطية عديدة تعززها بعض الأفكار الأكثر محافظة داخل الدولة رغم الرغبة العارمة في الانفتاح على المستوى الشعبي في جانب كبير منه والسياسي كذلك في بعض جوانبه، وهذا معطل لمسيرة التنمية بشكل عام، فهناك بعض القوانين تجد نوعا من البيروقراطية العتيدة كالسماح في قيادة المرأة للسيارة أو السينما أو غيرها لدى بعض التيارات المحافظة في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول المجاورة سباقة في تبني تلك القضايا والدفع بها إلى الأمام، لكن إلى أي مدى يمكن النظر لهذه المواطنة كهوية تستحق التفعيل في أكثر من مجال من مجالات الحياة؟
في تصوري أن مفهوم المواطنة يكمن في التحقيق السياسي أكثر من أي تحقيق آخر بمعنى أن الفعل السياسي هو من يعزز من هذه المواطنة وهذا العمل بالتأكيد يمكن له أن يحقق المطلب الوطني، لكن هذا لن يكون ما لم يزيح البعض عن أذهانهم فكرة التفوق المذهبي أو المناطقي بحيث يتحول الوطن بأكمله ذو الحضور الديني الكثيف إلى وطن ذي نزعة مدنية خالصة، والنزوع نحو المفهوم المدني دون الديني في تشكيل المواطنة في كافة نواحيها بما فيها تسيير الشؤون الدينية يمكن لها أن تعزز روح المواطنة داخل أطياف المجتمع المتعددة، وهي متعددة بحق وحقيقة وليست فقط تيارات متصارعة، بل يشهد لهذه التعددية الكثير من الوقائع التي ليس هنا مكان الحديث عنها.
لكن كل ذلك لا يمكن له أن يكون ما لم تذهب النخب باتجاه تفعيل ذاتها داخل العامل الاجتماعي، وتعزيز قيم المواطنة من خلال التوزيع التنموي على مختلف المناطق، فالنخب سواء كانت داخل الفاعل السياسي، أو كانت داخل الفاعل الفكري يمكن لها أن تكون فاعلا قويا لتعزيز مفهوم المواطنة بين أطياف المجتمع، ولعل النخب بمختلف أشكالها ومواقعها تشتغل هذا الجانب لتعزيز التحرك نحو المواطنة أكثر، لكن هذا يحتاج إلى وعي كبير من قبل هذه النخب لأهمية الموضوع وعدم ترك الأمور إلى حالة الطوارئ التي غالبنا ما تدار الأمور على طريقتها في كثير من الأحيان، فتفعيل علاقات المواطنة سياسياً يكون أكثر أهمية أحيانا منه في تفعيلها اقتصاديا أو اجتماعيا، ذلك لأن الفاعل السياسي سابق في المنطقة العربية على غالب الفاعلين الآخرين، فإذا كانت العلاقة بين الشعوب الأخرى تحكمها الجوانب الاجتماعية فإن المجتمع المحلي في إطار تقليدية النظرة إلى ذاته أو إلى غيره، ولذلك غلب الفعل السياسي على الجوانب الأخرى، وهذا مؤشر جيد من جهة تسريع عملية المواطنة متى ما تم توحيد الجهود في ذلك، فالمسألة هي نوع من التحديث على كافة المستويات: الدينية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وهي كل لا يمكن أن يتجزأ، لكن يبقى الجانب الثقافي هو الجانب الأهم في عملية التنمية، لأنه كلما كان الوعي الثقافي واسعا سهل الدخول في عملية المواطنة بشكل أسرع من ذي قبل، لكن هذا موضوع يطول الحديث فيه.