مرة أخرى وثانية وألف سيكون هناك ما يمكن قوله عن طلال مداح، بحيث لا يبدو مكرراً ولا عادياً، كما كان هو نفسه. مئات البشر ممن التقيهم، وقد رافقوا طلال في سفر أو صحبة أو غناء، أو حتى في حديثٍ عابر، كلٌ منهم لديه عنه قصة.
في السنوات الأخيرة من حياته يقول بعضهم إنه كان محبطاً وحزيناً، لم يكن راضياً عما آلت إليه الحالة الفنية بشكلٍ عام، وهذا صحيح، على الأقل من زاوية افتراس الحياة العامة على يد الغلاة، في استعداء عام للحياة وألفتها وخنق وجدان البشر، لقد اضطرت الأغنية للانزواء داخل الأسوار المحمية، وفي البيوت الخاصة، وسهر الأصدقاء والمحبين، والمناسبات والحفلات، التي كان قد أثير حولها ما أثير، وأخيراً أوقفت (لا بد أنكم تذكرون حفلات مسرح المفتاحة وجدة) ليخسر المجتمع من جديد شيئاً من صوته وبهجته.
كان سحب الموسيقى من الشارع وإبعادها عن لسانه اليومي، عن حياة البسطاء خطأً شنيعاً، خرجت الأغنية من الطرقات والنوافذ والبيوت والقصص، لتلوذ بالمال والفخامة، وتصبح مع مرور الوقت حاملاً لوجدان لا يعني شيئاً في حياة كثيرين، بقي شيء محدود من فضاء الكلمات، ومع الوقت خسرت حتى هي بدورها مكانها الأهم. أعود لطلال مداح، وقد أشار إليه البرنامج الرمضاني "سيلفي" في حلقتين، في إشارة إلى الفن كدواء ناجع لتجاوز الإرهاب وإعادة تأهيل الحياة بيننا، نعم تضيق بنا الطوائف والديانات والبلدان، وتتسع لنا الموسيقى والأغنية، وهكذا كانت اللمحة الطيبة لطلال، وأقول إنه وبعد هذا الوقت من وفاته خرج جيل جديد لم يره على الطبيعة. في النصف الأخير من شعبان، وفي حفلة شجية وجميلة لأغنياته، بضيافة ابنه الأستاذ عبدالله مداح، وصالون الفن، وبعض محبيه، كانت المفاجأة أن أغلب الحاضرين من الشباب، ومن مختلف الأعمار ازدحموا، حتى فاض المكان، واضطر كثيرون للجلوس في الساحة الخارجية. قدم أغنيات طلال كثيرون، منهم الملحن الكبير محمد المغيص، غنى له "في خاطري شي"، وأغنية العيد الشهيرة "كل عام وأنتم بخير".
غنى أيضاً الفنان الرائع فيصل العمري "عطني المحبة"، و"يقولوا قنع منك"، كما غنّاه فنانون آخرون، في عطشٍ واضح من الناس، وأملهم أن تلك الليلة كانت تدشيناً لعودة الفن لأيامهم.
ألبير كامو قال مرة: "في تلك الأيام الرائعة والمخيفة، حين تصفو الريح الباردة... يكون حفيف الأوراق المتساقطة متهالكاً في الحديقة كلها، حينذاك تأتي أغنية أخرى، تجربة جديدة، حكاية..."، ويأتي طلال أيضاً.