تكررت كثيراً حالة اتفاق الأعداء في لحظة ما على عدو ثالث، وعبر التاريخ لم يخل صراع من هذا النوع من التحالفات، ونقض التحالفات، وكل الشعوب كانت عرضة في لحظة ما لغدر حلفائها، فلعبة السياسة تقتضي تغير التحالفات والولاءات، بحسب تغير الأولويات.
الأنباء التي تتسرب الآن عن لقاءات سرية تجري في الجزائر بين النظام السوري وبين تركيا للاتفاق على تحجيم التمدد الكردي، ومنع الكرد من فرصة لإقامة فيدراليتهم المعلنة، والتي يعتقد الجميع أنها مقدمة لإقامة دولتهم، هذه الأنباء ليست غريبة، ولا مستبعدة، وهي إن لم تكن قد حصلت فعلاً، فستحصل في وقت ما، وما يزيد من مصداقيتها أن الإيرانيين طرف رئيسي فيها، فالقوى الثلاث، الأتراك والإيرانيون والنظام السوري، لا يريدون للكرد أن يمتدوا أكثر من ذلك، ولا يريدون لهم يصلوا الأقاليم الكردية ببعضها، لأن ذلك سيعني بالنسبة للنظام السوري أن إعلان الانفصال بات قاب قوسين أو أدنى، وبالتالي يكون الباب قد فتح رسمياً لتقسيم سورية إلى دويلات متعددة، يصعب إعادة توحيدها لزمن طويل، وهو ـ أي الانفصال ـ يعني بالنسبة لتركيا دق ناقوس الخطر، وإطلاق الإنذار النهائي بتحرك أكراد تركيا، الذين لن يبقوا صامتين وهم يرون كرد العراق وسورية قد حققوا حلمهم القومي، والإيرانيون بدورهم لا يريدون لقوة إقليمية جديدة أن تقض مضجعهم وتحرك أكراد إيران كذلك، وتدفعهم للمطالبة بحقوقهم القومية، وربما أكثر من ذلك.
نجاح الكرد في مسعاهم في سورية سيعني البدء الفعلي لعملية رسم خرائط جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما لا يقبل به أحد حتى الآن، فحتى الأميركان الذين يدعمون الكرد عسكرياً وسياسياً، ويعتمدون عليهم كرأس حربة في قتالهم ضد داعش، لا يريدون تغيير خرائط المنطقة، ولا يتحملون تبعات الصراعات بين الدول الناشئة في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
الحرب ضد داعش غيرت الكثير من توازنات القوى، وبدلت الحلفاء والأعداء، وأوصلت الصراع في سورية لمنطقة سريالية، تجد فيها طائرات أميركية وروسية تلتقي في الجو وهي تقصف أهدافاً عسكرية، يتقدم باتجاهها برياً قوات كردية من الشمال وميليشيات شيعية مدعومة إيرانياً من الشرق، وقوات سورية معارضة من الجنوب وقوات النظام السوري وميليشياته من الغرب، فيما الجميع يعادي الجميع، ويطلق التصريحات ضده.
يبدو أن النجاحات الكردية العسكرية والسياسية ستغير هي الأخرى من لعبة التوازنات وخارطة التحالفات، فوصول قوات سورية الديموقراطية (وقوامها الأساسي وحدات حمية الشعب الكردي) إلى محافظة الرقة ومشارف حلب، وفرض سيطرتها الكاملة على معظم المناطق التي تحتوي على أغلبية كردية، ونجاح هذه القوات سياسياً في جذب الدعم من أطراف متنافرة في وقت واحد، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا، ونجاحها في صنع حالة شعبية مرحبة بها، بعد تمكنها من هزيمة داعش في مناطق كثيرة، كل ذلك جعل القوى الإقليمية التقليدية تشعر بالخطر، وتبدي الاستعداد لتنحية خلافاتها جانباً، ولو مرحلياً، لمنع الكرد من إكمال مشروعهم.
قبيل احتلال العراق في عام 2003، حذر الكثيرون الكرد من الركون لوعود الولايات المتحدة، ونبهوههم من أن الولايات المتحدة ستستخدمهم أداة في الحرب ثم ستتخلى عنهم وتتركهم لمصيرهم، كما فعلت مع كثير من حلفائها عبر تاريخ حروبها، ونجح الكرد بمحصلة الحرب من إنشاء إقليمهم الخاص، دون أن يتمكنوا ـ حتى الآن ـ من إقامة دولتهم الحلم كما وعدهم الأميركان، واعتبر هذا الإقليم نصف نجاح، رغم أنهم كانوا قد حصلوا عليهم بقوة الأمر الواقع في السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين، وباراك أوباما قال لمسعود البارزاني في عام 2014: أنا متأكد من أن الدولة الكردية سترى النور قبل أن أموت أنا وأنت، وهي عبارة فضفاضة، تمثل تلخيصاً لجوهر السياسة الأميركية الجديدة تجاه قضايا المنطقة، والتي تقوم على ترك الأمور تذهب حيث تريد أن تذهب، وحين تصل إلى حد ينذر بالخطر، كإعلان الدولة الإسلامية ـ داعش ـ يمكن التدخل بالحد الأدنى، لوقفها عند حد دون الخطر بقليل.
الأنباء المسربة عن اللقاءات السرية بين أعداء الأمس، والموجهة ضد المشروع الكردي، ستصطدم كما قال مسؤول كردي، بمصالح القوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ولكن هذا الاصطدام قد لا يكون طويلاً، وقد يمكن تفاديه، والمهم أن الحلم الكردي بدأ يتفوق على عداوات الأعداء.