الحشد هنا يحيل إلى هندسة فكرية واجتماعية هدفها تحريك الناس في اتجاه محدد ورفع فعالية هذه الحركة بقدر الإمكان. لغويا مفردة الحشد تشير إلى اجتماع بشري كثيف في مكان معين. هذا الحشد يمثل طاقة هائلة جاهزة للانطلاق متى ما أتيحت لها الفرصة المناسبة. يقال حشدت الناقة أي غزر اللبن في ضرعها. هذا اللبن جاهز للخروج وبقوة متى ما بدأ الحلب أو الرضاعة. الحشد بالمعنى الفكري والاجتماعي يحيل إلى عملية من تكثيف المجال العام لدرجة تجعله على استعداد للانفجار أو التغيير الراديكالي. كل عمليات التغيير الاجتماعي تتطلب درجات من الحشد للتغيير وإحداث الفرق، لكن معدلات هذا الحشد ودرجات تحدث فرقا نوعيا في طبيعة الحركات والتغيير. هذا الفرق نلاحظه بين حركات التغيير الواعية المدفوعة بأهداف معقولة وبين الجنون الجماعي الذي يقضي على حياة كثير من الأفراد الذين قاموا به. سأحاول في هذه المقالة تسليط شيء من الضوء على قضية محورية في منطق الحشد وهي تصوراته للآخر المختلف والدلالات الأخلاقية لهذه التصورات. منطق الحشد قائم على تقسيمات الخصومة بين الذات والآخر. بمعنى أن الحشد يعمل بفعالية عالية حين تتم صياغة الحراك الاجتماعي في صورة صراع مع عدو ما. تحت ضغوطات ومتطلبات الحشد تتم صياغة هذا العدو بطريقة معقدة لدرجة أننا نصبح مع الوقت أمام عدو تخلقه الذات أكثر من كونه طرفا واضحا في معادلة الواقع. يمكن تسمية هذه العملية بصناعة الآخر. في البداية من المهم أن نلاحظ أن صناعة الآخر عملية ذاتية. بمعنى أن الذات تقوم بصياغة آخرها لأغراض محددة. في منطق الحشد الآخر له هدف محدد وهو رفع معدلات الحشد من خلال تقديم السبب الذي يدفع الناس للحركة في اتجاه محدد. الآخر هنا ليس مختلفا فقط بل عدو. العداوة هنا تعني إغلاق الباب أمام الخيارات المتاحة مع الاختلاف وهي تحديدا خيارات التعاون. منطق الحشد يريد القضاء على إمكانيات التعاون والتصالح والعمل المشترك بين الذات والآخر من خلال صياغة آخر عدو بالضرورة. مع هذا العدو حتى التعاون والمصالحة ليسا إلا هدنة مؤقتة لا بد من تجاوزها متى ما سمحت الشروط. نقل الآخر من المختلف إلى العدو يحدث فارقا أخلاقيا هائلا باعتبار أن العداوة لا تعني فقط أن الذات تواجه مشكلة مع الآخر لم يتم حلها، بل تعني أن هذه المشكلة لا يمكن حلها باعتبار انتفاء نية الخير في ضمير الآخر. الآخر هنا شرير أو بلا مبادئ. منطق الحشد هنا يقوم بإغلاق الباب تلو الآخر أمام كل الخيارات باستثناء خيار الصراع العدواني. صناعة الآخر تنتج آخر بقبضة محركات الحشد لا وجود حقيقي له في الواقع. لذا منطق الحشد منطق انغلاق. الانغلاق يعني صناعة الحواجز بين الذات والآخر الواقعي بقدر الإمكان للحفاظ على صورة الآخر المتخيّل. الانغلاق ممكن ملاحظته في طبيعة الأنظمة الإيديولوجية الحشدية. نجد أن هذه الأنظمة تحاول جاهدة حجب "حشودها" عن الواقع. المثال الأبرز اليوم هو كوريا الشمالية والحجاب الكثيف الذي تفرضه الحكومة هناك على شعبها لحجب تواصله المباشر مع العالم. نلاحظ كذلك منطق الحشد في كثير من الأطروحات التي تقدم للمبتعثين في خطابات الحشد المحلية حين مغادرتهم للبعثة في الخارج. منطق هذه الأطروحات يقول "لا تصدق عينيك" ولا "تستنتج بشكل طبيعي" ولا "تستخدم منطقك المباشر". منطق الحشد هنا يقلب معادلة التفكير المباشر. بمعنى أنه يقول للمبتعث إن ما ستراه بنفسك ليس إلا مشهدا مخادعا أما المشهد الحقيقي فهو ما سأقوله لك أنا هنا من وراء آلاف الأميال. تلاحظ هذه الصراع في تجربة كثير من المبتعثين، فالآخر الشرير في ذهنه يبدو في أحيان كثيرة طبيعيا وخيّرا وأكثر عدالة ممن يصنفهم في دائرة الذات. ردة الفعل تجاه الملاحظات تختلف. بعض المبتعثين ينغلق على ذاته ويحد من اختلاطه بالآخرين لتخفيف ضغط هذه الملاحظات، آخرون يقتربون أكثر من أطروحات الحشد للحصول على تمويل يومي لمقاومة ملاحظات الواقع، وآخرون يتحركون في اتجاه عام من المراجعة لأطروحات الحشد بناء على ملاحظاتهم الشخصية وتجارب حياتهم المباشرة.

الآخر المتخيل في الصناعة الحشدية واضح ومباشر وبسيط. الآخر الواقعي على خلاف ذلك فهو تجربة مفتوحة متجددة ومغامرة تخوضها الذات بشكل مستمر. الآخر الواقعي لا يمكن الوصول إليه والارتباط به إلا بالضيافة. أي بالانفتاح غير المشروط لما هو مختلف وجديد ومفاجئ. الضيافة هنا تعليق للأحكام الذاتية المسبقة ومحاولة للاستماع. إذا كان منطق الحشد قائما على بناء الحصون والحواجز ونقاط التفتيش فإن منطق الضيافة يشبه ببساطة باب الضيافة المفتوح. الضيافة هنا ابتهاج بالآخرية والغيرية واحتفاء بها. هنا يظهر الآخر المختلف كضيف بدلا من ظهوره كعدو في منطق الحشد. الضيافة كذلك تربك الحدود بين الذات والآخر، فالآخر مؤسس ضروري للذات بدلا من كونه نقيضا للذات كما تؤكد عليه في منطلقات الحشد. هذه النقطة تحديدا ستكون القضية الأساسية للمقالة القادمة. تحديدا كيف يعمل منطق الحشد على تثبيت الهويات تحديدا هوية الجماعة وهوية الآخر وكيف يعمل منطق الضيافة على تحريك هذه الهويات وإرباكها وإعادة تشكيلها من جديد.