ثمة أسئلة عدة حول إمكانية أن يصبح المرشح الرئاسي عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، رئيسا للولايات المتحدة. هذه الاستفهامات تنطلق من الرجل وتاريخه غير السياسي، وشواهد تعامله مع منافسيه الجمهوريين في مناظرات سابقة، وتصريحاته التي تنم عن فقر شديد في التمييز بين صور ومفاهيم ليس من العسير قراءتها، على الأقل لمن يريد أن يكون رئيسا، وفي فريقه من الاختصاصيين والخبراء ما يفترض أن يُجنبه مغبة الانجرار خلف مشاعر في غاية الصِغر. قيل في ترامب، وعن الخوف من "سنواته الرئاسية" المُحتملة، ما يستدعي رجلاً آخر، كان حلمه أن يرى العنصرية وجدرانها العازلة من مخلفات الماضي، وأن تكون أميركا لكل مواطنيها.
مارتن لوثر كينج، زعيم الحقوق المدنية الأشهر في تاريخ أميركا الحديث، أعلن منذ يومه الأول في الحراك السلمي لإنهاء التمييز ضد ذوي الأصول الإفريقية أنه ليس ضد البيض كافة، وأن معركته مع العنصريين منهم. فالقضاء على التمييز ضد مكوّن اجتماعي يتطلب تمييزا من نوع آخر، يضمن ألا يوضع جميع البيض في خندق العدو. واجه كينج، بسبب ذلك، انتقادات لاذعة من قبل قيادات يصح فيها الانضواء تحت لواء الحقوق المدينة، لكنهم مضوا إلى الساحات بوسائل مختلفة؛ من بينها العنف، واعتبار البِيض أعداءً دون استثناء. المثال الأبرز لحال التباين الذي سكن نخبة الحقوق المدنية جمعَ كينج ومالكوم إكس. فبدايات الأخير اتسمت "جذريتها" بالقطيعة مع أي مسعى اندماجي، وبتسفيه أي رابط بين معسكرين رسّم إكس حدودهما على نحو يعزز اللاجدوى من أي شريكٍ له لون المضطهد ولكنته، إلى حد أن رأى "الشر متأصلاً في كل البيض". يقف كينج على الضد من هذا، ويقول في خطبته "لدي حلم"، التي ألقاها بالقرب من نُصب الرئيس لينكون التذكاري بواشنطن، صيف 1963، إن مصير شريكه في البلاد مرتبط بمصيره، وأن لا حرية لأحدهما دون الآخر؛ قيل هذا قبل أكثر من نصف قرن، إلا أن حاضرا يطل عليه دونالد ترامب يشكو من ضيق أفق متنام، وتنتشر فيه أحكام "جوهرانية" يكثر مستثمروها أزمة إثر أخرى. وليس من التشاؤم القول إن تفجير أورلاندو الأخير، الذي نفذه، بحسب الأنباء، عمر متين لن يكون آخر حلقة في مسلسل الاتهامات الجمعية التي جاءت كلمات "لدي حلم" لبيان تهافتها، وضرورة الرد عليها قولاً وعملاً. "المسيرة من أجل الوظائف والحرية"، المناسبة التي اقترنت بخطبة كينج، وألهمت أجيالاً في جهات العالم الأربع، شهدت حضوراً كثيفاً اتسم بتنوع لا ينكر أغلبية ذات بشرة سمراء، لكنه أحصى أكثر من 60 ألف مشارك من سواها.
أين ظاهرة ترامب من كل هذا؟ إنها في الفضاء العام الذي تسوده مُسبقات المرشح الرئاسي وأنصاره المُطعمة بحنينٍ إلى أميركا ليس لمارتن لوثر كينج وأدبياته حظٌ وافر فيها. فشعار حملة ترامب الرئاسية يدعو إلى "جعل أميركا عظيمة مجددا"، بمعنى يُربت على كتف الماضي الذي يبدو الحنين إليه سر ترامب، ومفتاحه للتأثير في الحالمين بعظمة ما تُنسيهم أسى راهناً يُمثل دونالد ترامب، من حيث لا يعترفون، أحد أسبابه.
خطاب ترامب يكرس، لناحية انعكاساته الداخلية، حالة تدفع أميركيين كُثرا إلى الشعور بالغربة وهم في وطن يحملون جنسيته، ويدافعون عنه كملاذ ومثال. إذ اللغة المعتد بفجاجتها تأخذ في طريقها السطحي وتصيّره وجهة وحيدة، وتُلمحُ إلى أن لا حاجة للقواعد الناخبة لأن تمر على قضايا شائكة بشيء من الروية وإلجام الغرائز الظافرة بعدتها وعديدها، حتى صارت عبارة "الإسلام الراديكالي"، على سبيل المثال، تُحيل إلى لازمة كلامية لها فعل الجذب الاقتراعي، ومنها تسري صورة الرجل العارف بموضوعه، أكثر من كونها وصفا لواقع قائم تزيده بعض الهوامات "الشعبوية" سخونة.
وكما أثبت كينج أن حياته كانت لتقويض البنى القانونية والاجتماعية لعنصريي أميركا، ودفع ثمن ذلك غالياً باغتياله، ها هو اسمه في 15 يناير (أو يوم الإثنين الثالث من ذات الشهر) من كل عام يوحد البلاد ويمنح عامليها، في ذكرى مولده، يوم عطلة رسمي. وكم هو البون شاسع بين من يوحد الناس، حتى بعد وفاته، وبين من يسعى لدق الأسافين بينهم.