هل الدين دولة؟ أم أن الدين متسام على الدولة كمفهوم، لنجد أكثر من مليار مسلم يعيشون إسلامهم الكامل بينهم وبين الله، على اختلاف دولهم، من أقصى الصين لأقصى كندا، ومن أقصى السويد لأقصى أستراليا، فهم مع الله مسلمون يؤدون فرائضه، ومع دولتهم مواطنون يؤدون واجباتهم ويأخذون حقوقهم دون تفرقة بسبب عقيدة أو لون أو عرق، ولهذا لا نستغرب أن يوجد في الجيش الأميركي ما يقارب خمسة عشر ألف جندي مسلم الديانة أميركي الجنسية، ومثلهم كثير في الجيش الهندي والكندي والروسي... إلخ، فهل نكفرهم وفق عقيدة البعض أم نتفهم معنى المواطنة ونعيد تعريف أنفسنا وفق العصر الحديث، ولهذا فالدول تدافع عن مصالحها وليس عن عقائدها، لأن الدين فوق الحدود والجغرافيا، ولم يكن في يوم من الأيام بحاجة إلى من يدافع عنه، فالأديان خالدة وليست بحاجة لمن يدافع عنها، أما العقائد الأيديولوجية سواء الفاشية باسم العرق أو الفاشية باسم الدين فهي بحاجة دائماً لأنها هشة ولا تقوم إلا على سفك الدم.
هل الدين منظومة ثقافية سياسية اقتصادية؟ أم الدين متسام على كل المنظومات الثقافية والسياسية والاقتصادية؟ المنظومات الثقافية والسياسية والاقتصادية منظومات إيديولوجية قابلة للنقض والإسقاط والمناقشة وتكبلها البيروقراطية أحياناً ولهذا قيل الدولة لا تصلي ولا تصوم، وليس من عاقل يضع دينه في ميزان مساو للأيديولوجيا كمجموعة أفكار، وإلا فهو يريد صناعة نازية جديدة سيتحالف العالم أجمع لإسقاطها وستسقط، لأن النازية الشوفينية خطر على البشرية حتى ولو جاء معتوه في هذا العصر وطرحها تحت مفاهيم إسلامية واستجلب لها آية من هنا وحديثاً من هناك، كما نرى في داعش ليصبح الدين في ملتهم مفهوماً نازياً يشعل النار في ما سواه، ويصبح البغدادي زعيماً نازياً شوفينياً بدعوى السلالة والنسب.
إن كان الدين دولة، فمعنى ذلك انتهاء الدين بسقوط الدولة، وهذا ما توهمه كثير من الإسلاميين بعد سقوط (الخلافة العثمانية)، رغم أن (الخليفة) فيها إذا تولى الحكم قتل بعض إخوته وسمل عيون البقية، وخنق أطفال بعضهم البعض، ورغم ذلك يسمونها خلافة (إسلامية) وبذلك يلصقون بالإسلام عيوب البشر التي يعيشونها في منظوماتهم الثقافية والسياسية والاقتصادية.
إذاً لماذا يقتات الكثير على هذه الأطروحات الشمولية في خطبهم ومواعظهم، لأن حقيقة الأزمة هي في فكرة (الأسلمة) التي أتى بها الإخوان المسلمون كحيلة يشدون بها حبال الدولة لهم، فشعارهم إذا تشرب المجتمع أدبياتهم في أن (الإسلام دين ودولة) سينكشف عن حقيقة أهدافهم في أن الإسلام دين وهم الدولة، لأنهم قد زرعوا في العقول أن معايير الدولة لا تستقيم إلا عبر مسطرتهم الخاصة في لعبة (الأسلمة) السياسية والثقافية والاجتماعية.
الدين فوق الدولة، لأنه رابط العبد مع الله، والله فوق الدولة بل وفوق الأنبياء ولهذا وردت كلمة أبوبكر العبقرية بعد وفاة النبي الكريم إذ قال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) ولهذا بقي الإسلام خالداً رغم موت النبي وسقوط الدول طيلة ألف وأربعمائة سنة، أما الإصرار على ربط الدين بالدولة فهو حيلة أيديولوجية لصناعة شرعية سياسية كما تفعل جمهورية إيران (الإسلامية) وغيرها، وكما تفعل بعض الأحزاب الصغيرة التي تريد أن تصبح دولاً رغم أنف الشعوب والطوائف الأخرى كما في حزب (الله) وأنصار (الله) ومشاكل الدولة الدينية لا تنتهي، بدءا بشرعية تقوم على ادعاء الحق الإلهي فيها فقط، ونزعه عن من سواها، لتصبح دولة طائفية دون أن تشعر بحقيقة وضعها مع مواطنيها، لتراها دول العالم غارقة في ما تخلصوا منه منذ قرون، وانتهاء بقتل المعارضين السياسيين في الداخل وتصفيتهم ونسبة ذلك لحكم الله من فوق سبع سماوات.
الإسلام دين والناس بمختلف طوائفهم ومذاهبهم هم الدولة، وقد يفعل المسلمون المجازر في دولتهم فننسب الظلم لهم بدلاً من أن ننسبه للدين، ولهذا فحتى بعض أهل النظر من الفقهاء التقليديين أكد على أن العدل هو شرع الله، فحيثما كان فثم دين الله، ولهذا قال الأقدمون: إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، والسؤال المنطقي كيف وصلت تلك الدولة الكافرة للعدل وهي لا تطبق شرع الله كما يريده الإسلاميون؟! إن المقاصد الشرعية هي مقاصد إنسانية لا تحتاج حذلقة الفقهاء كولاية تتغيا طريق الخميني الذي أقام جمهوريته على أكتاف المفكرين الإيرانيين الذين تخرجوا من جامعات الغرب في القانون والسياسة ليصنعوا له منظومته البيروقراطية التي تُسيِّر إيران كدولة حديثة، ثم تخلص منهم اغتيالاً ونفياً، وكذلك يفعل الإسلاميون دائماً، نعومة الثعبان وتلون الحرباء، المبدأ الوحيد الذي يثبتون عليه هو العقل الجامد الذي لم يستوعب لماذا الدولة الحديثة تسمي شعبها (مواطنين) ولا تسميهم وفق ديانتهم أو قبيلتهم؟! فحقوق المواطنة مسؤولة عنها الدولة أمام مواطنيها، أما حقوق الديانة والقبيلة فمسؤولية الأفراد بينهم وبين الله، وبينهم وبين قبائلهم، وتبقى كلمة الشريعة التي يخلطها الناس بالدين ولن أعيد القول فيها فقد أوردت في مقال سابق بعنوان (بين الدين والشريعة يختبئ الدواعش) بعض ما يمكن إيضاحه.
أوروبا اكتشفت أن حقيقة الدين لا يمكن قياسها ولا وزنها ولا العلم بها كأنما قرؤوا قوله تعالى: (ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ولهذا وضعوا معايير دنيوية لا تستثني أحداً لأنه أكثر تديناً ومن ذوي الهيئات فتغض الطرف عن أخطائه، ولا تتجاوز في العقوبة على أحد لأنه أقل تديناً ومن ذوي الحاجات فتضاعف العقوبة عليه، معيارهم قائم على العدل الإنساني، مع يقين المتدينين منهم أن العدل الإلهي بيد الله يوم القيامة، ويستحون من الله أن يتوهموه بأيديهم على رقاب الناس.
ولهذا فالدين لله مع عباده، وليس للمواطنين مع الدولة إلا ضمان الضرورات الخمس أن يعتدي عليها أحد، ولا يعقل أن يجد المسلم في بعض بلاد الغرب هذه الضرورات محفوظة ومنها حفظ الدين ما لا يجده مسلم على غير مذهبنا أو رأينا الفقهي في بلاد المسلمين، ليعيش مثل هذا المسلم في بعض بلاد المسلمين خائفاً على دينه وأن يظهر رأيه الفقهي البسيط الذي يدين لله به، خوف التشنيع والاعتداء، فعن أي مفهوم للدولة والدين يتحدث المتنطعون؟!.