كنت أود لو وقفت على تفاصيل الحياة اليومية لخير البشر صلى الله عليه وسلم، حتى إني أشرت بهذا العنوان على عدد من طلبة العلم منذ أكثر من ثلاثين عاماً؛ ليجعلوه محور بحوثهم في الماجستير أو الدكتوراه، فلم يستجب لي أحد منهم لعدة عوامل؛ منها: عجلة الباحث في الحصول على الشهادة، ومنها: عدم تصور الخطة المناسبة للبحث، ومنها: التباس فكرة البحث بما جاء في السيرة النبوية العطرة للحبيب عليه الصلاة والسلام.
كان تخصصي في الفقه المقارن هو الحائل بيني وبين خوض غمار هذا البحث في رسالة الدكتوراه، ومع ذلك ما انفك هذا الموضوع يرد علي بين الحين والآخر، وكنت قد أزمعت أن أبحث الموضوع تحت عنوان: (رسول الله كأنك تراه)، لولا أني وجدت قريباً من هذا العنوان مأخوذاً لموقع رسول الله، مع أنه يبحث في صفات الرسول عليه الصلاة والسلام الذاتية، فتوجهت بأجمُعي نحو عنوان آخر هو: (بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم)، ومكثت مدة أسأل عن ذائقة هذا العنوان ومدى مناسبته للموضوع، فلم أجد جواباً يمنعني منه، غير أني لم آخذ به؛ لترددي فيه فتركته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (إذا حاك في صدرك شيء فدعه)، ثم إني تدارست مع سعادة الأخ الدكتور عبدالرحمن الشقير عالم الاجتماع الفذ صاحب التآليف التاريخية والاجتماعية الفريدة، فأخبرته بخبر الموضوع كله، فاقترح علي تسميته بـ:(الحياة اليومية)، وقال: إن الحياة اليومية علم ناشئ بدأ يأخذ مكانه بين العلوم الإنسانية في زماننا.
لم أتحرج من هذا العنوان كسابقه؛ لأنه أقرب العبارات لما أريد بحثه في حياة خير البرية صلى الله عليه وسلم، فأعددت خطة العمل بالمرور على صحيح البخاري، والتقاط كل ما فيه من نصوص ليس لها صفة التشريع؛ مما تحتاجه الحياة اليومية من التصرفات التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلمات التي يقولها لأزواجه وأصحابه، والمشاعر التي تبدو عليه في المواقف اليومية العارضة، وكنت أنتقش ذلك انتقاشاً، حتى اجتمع لي كمٌ هائلٌ من السيرة العطرة الممتلئة سماحة ويسراً وطيباً لا يساميه فيه أحد، ولا يكاد يقول ببعضه إلا النزر اليسير من طلبة العلم، بل منه ما لو ظهر للناس لانكشف زيف المتشددين المتنطعين، هذا وأنا لم أخرج بعدُ عما احتواه أصدق كتاب بعد كتاب الله عز وجل (صحيح البخاري) إلى غيره من كتب الحديث، مع التزامي في هذا البحث بعدم الاستناد إلا على الصحيح الثابت عند أهل الحديث المعتمدين.
وسأورد هنا أقوالاً وأفعالاً وتقارير منه صلوات الله عليه تكون أنموذجاً لما سيحويه الكتاب بحول الله، إن يسر الله إتمامه بفضله وكرمه.
لقد وجدت في حديث رسول الله الكثير من الصفات الرائدة التي بررت ترددي في اختيار العنوان السابق: بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام.
لقد ظهر لي أن رسول الله في حياته بين أصحابه في مجتمع مكة والمدينة بشر كسائر البشر؛ يأكل ويجوع، يشرب ويظمأ، يقوم وينام، يرتاح ويتعب. إلخ.
غير أنه في صفاته ليس كسائر البشر صلى الله عليه وسلم، فقد حوى جميع الصفات الحسنة، وخلا من كل ما عداها بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم.
ومن الصفات التي تمتعت هي بالتحلي برسول الله صفة الإيجابية الحقة، فلم يكن رسول الله سلبياً أبداً، فقد سمع فزعاً مرة فلم يأمر بتحر الأمر، بل استعار فرساً لأبي طلحة يقال له: مندوب، وذهب بنفسه لاستطلاع الأمر، ولما عاد أخبر الناس أن لا شيء يوجب الفزع، وأثنى على الفرس بقوله: إن وجدناه لبحرا. أي: سريع الجري لين المركب.
*وسمع مرة صوت رجلان يتلاحيان وهو في حجرته، فأطل برأسه وأمر المدعي منهما أن يسقط نصف حقه؛ بإشارة بيده، ففعل وانتهى خلافهما.
*ومرة سمع جلبة وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته سألهم: ما شأنكم؟. فقالوا: استعجلنا إلى الصلاة. فأمرهم بالسكينة عند إتيان الصلاة.
لقد كان رسول الله حاضراً بنفسه في كل حدث؛ ليضفي عليه ما يراه من أمر أو نصح.
*ومن الصفات التي ما انفكت عنه عليه الصلاة والسلام الرقة والتودد، فلم يكن فظاً ولا غليظ القلب، جاءه ابن عمه عبدالله بن عباس وهو غلام صغير فضمه إليه ودعا له: اللهم علمه الكتاب.
*وهذا مالك بن الحويرث يفد إلى رسول الله في عشرين من شباب قومه، فيقيمون عند رسول الله عشرين يوماً وليلة، ويقولون عنه صلى الله عليه وسلم: وكان رحيماً رفيقاً. ولما ظن أنهم قد اشتاقوا إلى أهلهم أذن لهم بالرجوع إليهم.
*وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها يسألها صلى الله عليه وسلم إن كانت ترغب في أن تنظر إلى الأحباش وهم يلعبون بالدروع والحراب في المسجد، فتقول نعم. فيقيمها وراءه، تطل عليهم من على كتفه وخدها على خده، وهو صلى الله عليه وسلم يستحث الأحباش على اللعب بقوله: دونكم بني أرفدة! أي: العبوا!. حتى ملت رضي الله عنها.
*وهذا الفضل بن عباس يركب ردف رسول الله في حجة الوداع وهو شاب جميل ويراه ينظر إلى امرأة شابة من خثعم وتنظر إليه، فيصرف وجهه عنها مرة بعد مرة؛ خوفاً عليهما من الشيطان، دون أن يزجره أو ينهاها.
كل هذا في جملة من الحياة اليومية الحافلة بالفوائد الفرائد، في التنظيم، والسياسة، والحرب، والإدارة، وغيرها من أمور وعلوم الحياة اليوم، أترك اكتمال المتعة بها حتى خروج البحث (الحياة اليومية لخير البرية) يسر الله إتمامه.