منذ أن كنا أطفالا ونحن نسمع هذه العبارة "إذا عشّر بشّر" تتردد كلما أوشك الثلث الأول من الشهر على الانقضاء. نسمعها فنشعر بالألم لأن شهرنا المفضل يتصرم وليس لنا فيه حيلة. من كان يلقي علينا هذه العبارة كان يلقيها متحسرا عادة، لينقل إلينا هذا الشعور بالحسرة والألم، وكنا نستجيب، فيدركنا الفتور ويسكننا الخمول مبكرا.

لم يحصل مرة أنّا توقفنا أمام مفردة (بشّر) في العبارة، وسألنا أنفسنا عن مبرر ورودها في مقام ومقال مثل هذا؛ يدل على الفقد الموجع، فانقضاء الشهر الكريم ليس مما يستبشر به الناس عادة. وإذا صح ما قاله القدماء عن العرب وأنها لا تنطق بكلام لا معنى له فإني أتوقع أن قائل العبارة الأول كان يريد شيئا آخر غير ما تبادر إلى ذهن متداوليها عبر الزمن، فمفردة (بشّر) هنا إيجابية، ولا أعرف لم نقلت إلينا بهذا القدر من السلبية.

البشارة في لغة العرب هي النبأ السار، ورمضان شهر البشر والسرور، أليس هو الشهر الوحيد في العام الذي أوله مغفرة وأوسطه رحمة وآخره عتق من النار؟!

إن تأمل العبارة وفق هذه التراتبية (المغفرة، الرحمة، العتق من النار) تكشف الدلالة الإيجابية للبشارة؛ فإذا كان أول الشهر مغفرة، والمغفرة مفردة تدل على السماح والتجاوز عن الذنوب الآنية، لارتباط الاستغفار بالذنب المباشر، خلافا للتوبة التي تشمل الآني والماضي، فإن هذا الطور من العطاء الذي يتضمنه أول الشهر سوف يتضاعف منتصف الشهر حين تبدأ مرحلة الرحمة.

الرحمة، إذًا هي مرحلة المنتصف، وهي أشمل وأكبر من المغفرة، لأن الرحمة تعني اللطف والعفو المطلق، الذي لا علاقة له بأعمال العباد، على ما ورد في حديث "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل".

هذه المرحلة تكون تمهيدا للمرحلة الختامية التي تمثلها العشر الأواخر من الشهر؛ مرحلة العتق من النار، وهي مرحلة المكافآت والهدايا، وهو ما يكون عادة بعد التعب والمشقة.

كل تلك بشائر، ورمضان شهر البشائر، في كل مرحلة منه بشرى للمستبشرين، وهنا يظهر العمق الدلالي لمفردة (بشّر) التي توحي بالانتقال من طور من أطوار العطاء إلى طور آخر أعلى منه.

وحتى لو افترضنا مع الشيخ المنجد وآخرين أن حديث المغفرة والرحمة والعتق من النار حديث ضعيف، وأن الأصح هو حديث "لله عتقاء من النار في ذلك كل ليلة" فإن باب البشائر يفتح وقائمة المبشرين تتسع، فتغدو كل ليلة من ليالي رمضان مبشرة بالليلة التالية وما فيها من الفضل والخير.

هكذا تفتح شهيتنا لمزيد من الطاعات ومزيد من الحسنات، ولا يصيبنا الفتور والكسل، ولا نشعر بالحزن لقرب الفقد، وهذه هي الإيجابية التي عودنا عليها ديننا الحنيف في العبادات والمعاملات على السواء.

كل رمضان أنتم أنشط للعبادات وأحق بالبشائر.