لم يكتب عن الشام بحميمية لا حدود لها، مثلما كتب وتغنى أهم شعراء الشام كلها، الشاعر اللؤلؤي نزار قباني.

كل الشعراء العرب يكتبون عن الشام من الأعلى، إلا نزار قباني، فهو الشاعر العربي الوحيد الذي يكتب عن الشام من الأسفل، فيبدأ حنينه وعشقه ومحبته الخضراء للشام من الأشياء الصغيرة صعودا باتجاه الأشياء الكبيرة.

إنه يبدأ بنباتات المنازل الصغيرة وأحواضها المائية، ثم يصعد للأعلى، ويوسع الدائرة على الأشياء الكبيرة التي تخص الشام، مثل التاريخ والاسم والحضارة.

لقد أحال نزار قباني الشامَ من مجرد خارطة جغرافية جامدة إلى زهرة زيزفونية، وحوّل كل الشام من مجرد تواريخ رقمية، وصراع، ودماء، إلى امرأة حسناء تأمر وتنهى برفّة رمش، في درجة عالية التفنن من أنسنة الأشياء الجامدة، وبث الروح حتى في خشب النوافذ الشامية وأبوابها، الأمر الذي جعل من هذه الجمادات، كائنات حية تحس وتتألم، تبكي وتبتسم.

كثيرا يحزن، من يرى الشام في دفاتر نزار وأشعاره الماسية، ويراها الآن وهي كومة من الرماد والجثث، وفرق كبير جدا بين ما خطه نزار عن الشام وبين ما خطه بشار الأرعن على شوارها، بالمجنزرات وراجمات الصواريخ، بين من رسم الشام كلوحة جمالية، ومن أحرق تلك اللوحة وداس عليها بنعاله.

هناك نص شعري من أجمل ما كتب نزار قباني عن محبوبته الشام، والغريب في هذا النص العجيب أن نزار قد مارس فيه كل شيء، عتِب ولعن وسخِط وأحبّ وبكى وابتسم، وهو نص "من مفكرة عاشق دمشقي".

النص طويل، وبه حنين جارف للشام من الأسفل إلى الأعلى، من النبتة الصغيرة إلى التاريخ العربي المنهار، وكأن نزار قرأ مستقبل الشام قبل وفاته ليُهدينا هذه التحفة الفنية:

فرشتُ فوقَ ثراكِ الطاهـرِ الهدبـا

فيا دمشـقُ لماذا نبـدأ العتبـا؟

حبيبتي أنـتِ فاستلقي كأغنيـةٍ

على ذراعي، ولا تستوضحي السببا

أنتِ النساءُ جميعاً.. ما من امـرأةٍ

أحببتُ بعدك..ِ إلا خلتُها كـذبا

يا شامُ، إنَّ جراحي لا ضفافَ لها

فمسّحي عن جبيني الحزنَ والتعبا

وأرجعيني إلى أسـوارِ مدرسـتي

وأرجعي الحبرَ والطبشورَ والكتبا

تلكَ الزواريبُ كم كنزٍ طمرتُ بها

وكم تركتُ عليها ذكرياتِ صـبا

وكم رسمتُ على جدرانِها صـوراً

وها هو يقرأ الصورة المقلوبة الآن للشام الحزينة حتى وهو لم يرها:

يا شـامُ، أيـنَ هما عـينا معاويةٍ

وأيـنَ من زحموا بالمنكـبِ الشُّهبا

فلا خيـولُ بني حمـدانَ راقصـةٌ

زُهــواً… ولا المتنبّي مالئٌ حَـلبا

وقبـرُ خالدَ في حـمصٍ نلامسـهُ

فـيرجفُ القبـرُ من زوّارهِ غـضبا

يا ابنَ الوليـدِ.. ألا سيـفٌ تؤجّرهُ؟

فكلُّ أسيافنا قد أصبحـت خشـبا