في قصة من القصص المأثورة في تراثنا عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنه سمع في إحدى الليالي "بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمِّه: اتقي الله وأحسني إلى صبيكِ، ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءَه؛ فعاد إلى أمه فقال لها مثلَ ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخرُ الليل سمع بكاء الطفلِ؛ فأتى أمَّه فقال: ويحكِ إني لأراك أمَّ سُوء، مالي أرى ابنك لا يقرُّ منذ الليلة؟ قالت: يا عبدالله قد أبرمتني؛ إني أدربه على الفطام فيأبى. قال عمر: ولِمَ؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفُطَّم. قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهراً.. قال: ويْحَكِ لا تعجليه فصلى الفجر وما يستبينُ الناس قراءته من غلبة البكاء، فلمّا سلّم قال: يا بؤساً لعمر؛ كم قَتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديا ينادي أن لا تُعجّلوا صبيانكم عن الفطام؛ فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك في الآفاق". كثيراً ما تساق هذه القصة بطريقة وعظية دون أن يشار إلى عنصر مهمّ من رمزيتها.

لعلنا نقع على هذا العنصر لو تساءلنا عن الطريقة التي من الممكن أن يواجه بها (جهاز بيروقراطي) من أجهزتنا الإدارية هذه المشكلة التي واجهها عمر؟

فمن حيث (المنطق) فإن المنطلق الذي انطلق منه رضي الله عنه في بداية الأمر كان مبرراً، إذ إن نفقة الرضيع متضمنة في نفقة أمه فهو لا يطعم القوت بشكل مستقل كما هو الأمر في الطفل المفطوم. ولكن من حيث (الواقع) فالحال خلاف ذلك لتجاهله طبيعة البشر المجبولة على حب الاستزادة خصوصاً في أطوار العوز والفاقة.

بناء على ما نرصده في العادة من طريقة عمل بعض الأجهزة البيروقراطية، بإمكاننا التنبؤ بأن ما سوف يحصل منها عند مواجهتها هذه المشكلة سيكون كالتالي:

سيتم الإعلان بشكل مباشر وسريع، بأن على كل امرأة تزعم حلول فطام طفلها عن الرضاع أن تحضر قابلتها كشاهدة على عمْر رضيعها وحسابه من اليوم الذي شهدت ولادته فيه، أمّا في حالات الولادة التي تمّت دون إشراف قابلة فمن المهم الاستعانة بشهادة جيرانها، أو ربّما بخبير تسنين يتعرّف على عمر الرضيع من النظر إلى أسنانه ونحو ذلك. كذلك على الأم إثبات عدم تعدّيها بفطام الطفل قبل أوانه، وقد يكون ذلك بإحضار جارتين تشهدان لصالحها تحت القسم، كما من الممكن اللجوء إلى مختصة في أمور اللبن والرضاع في حالات الاشتباه الطبي وما شابه ذلك.

بإمكان الجهاز البيروقراطي فعل كل هذه الاحتياطات وتمويلها من المال العامّ. ربّما ستفلح هذه الاحتياطات في منع بعض حالات التحايل، ولكنها أيضاً قد تدفع الناس إلى ضروب أكثر تعقيداً في التحايل، مما يدفع الجهاز إلى سن المزيد من الإجراءات الاحترازية وتوظيف كل المقومات الفكرية والتقنية في سبيل ذلك. بإمكانه هذا بالطبع كما بإمكانه أن يوفر على نفسه العناء والهدر فيختار التخلي عن شرط الفطام كما فعل عمر في القصة المأثورة.

كل تشريع يتجاهل الطبيعة البشرية ولا يراعي احتياجات الواقع لا بد أن يجر معه هذا الهدر البيروقراطي الذي لا يختلف في حالات كثيرة عن بذل ريالين في سبيل تقويم ريالٍ معدني كما في الطرفة المعروفة.

كانت (مكسيكو سيتي) من أكثر مدن العالم تلوثاً مما دفع الحكومة إلى بحث حلٍ لهذه المشكلة. سرعان ما توصلت الأجهزة البيروقراطية إلى حل يخفف منسوب التلوث، فصدر في عام 1990 أمر حكومي يقضي بأن يحدد لكل سيارة من سيارات المدينة يومٌ من أيام الأسبوع تمتنع فيه عن السير في شوارع المدينة، واستعملت في ذلك وسيلة التعرف بواسطة أرقام اللوحات (حيث يمنع مثلاً على السيارات التي تبدأ أرقامها بأرقام معينة من السير يوم الأحد وهكذا..).

ولكنّ الذي حدث بعد سن هذا القانون كان مفاجئاً للحكومة، فلأن الناس شعروا بعدم الارتياح لتدخل كهذا فقدْ استعان الكثير منهم بسيارات قديمة رخيصة ليستعملها بشكل بديل في اليوم الذي لا يشغل فيه سيارته الأصلية. لم ينقص عدد السيارات الملوثة للجو، بل زاد مقدار تلوثه بحكم أن السيارات القديمة أكثر تأثيراً في ذلك كما هو معروف، فاضطرت الأجهزة البيروقراطية نفسها بعد 5 سنوات فقط إلى أن تتراجع عن خطتها بعد اتضاح فشلها التام. هذا من حسن حظ المدينة بطبيعة الحال، إذ كثيراً ما تفضل الأجهزة البيروقراطية المماثلة الهروب إلى الأمام على مثل هذا التراجع.

تأكد عزيزي القارئ قبل أن تسخر من قرار سلطات (مكسيكو سيتي) أن قرارها لم يكن سيعجبك لو سمعت به مبتورا عن نتائجه؟ وتأكد أيضا أنك لن تهتف لإجراء مشابه له "على نحو ما" حال سماعك به لاحقا.