وبكل تأكيد، فلو أن المجرم الأفغاني، عمر متين، قاتل فلوريدا الأميركية قد اختار لهجرته ومنفاه أي جزء من خارطة عالمنا الإسلامي لما كان قدره إلا أن يكون في أفضل الأحوال عامل بنشر أو سائق حفارة بئر إرتواز. ولا يقل أحدكم أنني أهزأ بالجنسية أو أحتقر المهنة الشريفة: كل ما أهزأ به وأحتقره ليس إلا أن يتحول العقل البشري إلى "كلاشنكوف" يقتل الأبرياء بالدرازن ثم يوصي بأن ما فعله ليس إلا من باب تغيير المنكر بيديه. وكل ما انتصر له ليس سوى قيم هذا الدين العظيم الذي تشوهه أفكار المرضى والجهلة. أنا واثق تماماً، وبالخبرة والتجربة أن هذا "العمر المتين" كان باستطاعته أن يتعبد الله وأن يقيم شعائر هذا الدين، وفي فلوريدا، وفي قلب أورلاندو، بحرية تفوق أضعاف ما كان له أن يفعله في خوست أو قندهار.
كنت أشاهد منظر الحادثة الإرهابية مع بضعة أفراد في صالة المستشفى ونحن على أبواب ساعة الزيارة، وفي الصالون الصغير تتبارى ردة الفعل ما بين المنكر الرافض بشدة، وبين الساكت الواقف على الحياء، وبين ثالث يقول بالحرف: دعوه لما ذهب إليه فنحن لا نستطيع فهم دوافعه ولا استيعاب ماذا عمل له هذا "الغرب الكافر"، تخرج مفردة "الغرب الكافر" من بين شفتيه كشلال من الحجر، وبالطبع حين يردف عليها بالقول: لا صلح لنا مع هذا الغرب إلا بالقطيعة الكاملة التامة. ولكم من الخيال أنه ينادي بالقطيعة الكاملة مع هذا الغرب الكافر ونحن في ردهات المشفى لا في استراحة زواج أو خيمة إبل صحراوية. كدت أن أقول له ما يلي لولا أن مساحة الزمن لا تصلح لنقاش: تمنيت لو أنني قلت له أن القطيعة التي تنادي بها مع هذا الغرب الكافر تعني إفلاس ما لا يقل عن ألف جهاز في هذا المبنى، لأن شبابنا ولله الحمد تخصصوا في التاريخ والشعر، وقد ينام المريض في الدور الثاني على مقطوعة شعرية لقيس وليلى حد الإغماء بدلا من "البنج". قد يستطيع المريض أن يقفز فوق آلامه المبرحة في الدور الثالث حينما يقرأ فتنة "خلق القرآن" من تاريخ الأمين والمأمون بدلاً من حبتي بنادول. قد نستطيع بالشعوذة وضرب الرمل أن نكتشف ما إذا كان صدر المريض يشكو انسداداً شريانياً أم التهاباً مزمناً بالرئة. قلت له وأنا أودعه ماذا تفعل هنا أيها الداعي إلى القطيعة والكراهية؟ فأجاب: أنتظر من أسبوعين وصفة علاج التهاب الكبد الوبائي التي ندفع بموجبها لهذا الغرب المبتز ربع مليون ريال لستين حبة فقط، في أحدث صرخة دواء لهذا المرض الفتاك. خرجت ضاحكاً على من يلعن الغرب الكافر ثم يقف عالة على معامله وأبحاثه ومصانعه، لأن شبابنا اختصاص قافية وأوزان شعر. متأكد أن ملابسه الداخلية لا تختلف عن ملابسي إذ هي حتى صناعة كورية، ولولا هذا الشرق والغرب من الكفرة لما تقابلنا سوى بوزرة تستر ما استطعنا من العورة.