قبل عشر سنوات أو يزيد من الآن كان بعض الشباب المراهقين من الجنسين خلال شهر رمضان المبارك يتذمرون علنا أمام أسرهم من مشاهدة حلقات "طاش ما طاش"، وقد يقاطعون مجالس الأسرة ويخرجون خارج المنزل كنوع من الاحتجاج إذا لم تكن لهم القدرة كآخرين على إغلاق التلفاز، أو كانوا ضمن عائلة تتفق معهم فيما يرغبون. هذا الرفض لمثل ذلك المسلسل الفكاهي الاجتماعي القائم على نقد بعض الممارسات الاجتماعية كان سببه "فتاوى" دعت لمقاطعة مشاهدته بل وتحريمها وتكفير من كتبها ومن كان يمثل فيه من بعض الشخصيات، وذلك بسبب النقد الساخر الذي كانت بعض الحلقات توجهه لفئات موجودة بالمجتمع ويفسرونه بأنه سخرية من الدين ورموزه ومن قيم المجتمع وعاداته. تلك الهجمة الشرسة ضد المسلسل ذاك أو غيره مما كان ينتقد بعض الممارسات والفئات نكاد نذكرها جميعا في زمن مراهقتنا، وكيف كان كثير من الخطب والمحاضرات والرسائل الدعوية المكتوبة أو التي تبث عبر الوسائل الإعلامية المحدودة وقتها وعبر المعلمين في المدارس تحذر من هذه البرامج، وتدعو على القائمين عليها بالهلاك وتخرجهم من الدين، وتذكي نار الكراهية في الصدور، وتقسم الناس لفئتين: مع وضد الدين، وتجد لها أسبابا تقنع العامة بها وتخلع عليها هالة قداسة لا يجرؤ أحد على المساس بها وإلا اعتبر محاربا لله ورسوله.
تلك المخاوف من النقد لممارسات بعض الفئات التي أساءت للدين والوطن والمجتمع من خلال الفنون كانت تحارب بصناعة الكراهية والإقصاء، وهو ما كان يُقابل بهجمة مضادة من الطرف المقابل حتى أصبحت المواسم الرمضانية قائمة على الحروب الصغيرة القائمة على عداء الآخر. وقامت أسر ورُبي نشء على أن من ليس مثلك في فكره واعتقاده وجنسه ولونه فهو عدو لك أو على أقل الأحوال عليك أن تضمر له العداء وتترصد له بالدعاء والنبذ بالكره والغل.
مضت السنوات وأصبح يُعرض بدلا من البرنامج الواحد عدة برامج، وتعددت وسائل التواصل وقنوات الإعلام التي تمرر أفكار مختلف الناس من الرفض والقبول لما يعرض تلفزيونيا، ومن كان يرفض مشاهدة من يقاوم سلبيات المجتمع بالفنون أصبح يترصد لمتابعتهم ليبدأ بعدها فاصلا من الانتقاد والتحريض والتأليب بنفس الأساليب القديمة التي تدخل للأمور من مدخل التدين والنصرة للحق الذي لا يراه سواهم. ولنا في الانتقادات التي تحمل نفس الكراهية لممثلي وكتاب حلقات برنامج "سيلفي" الذي يعرض حاليا مثال لصورة مكررة مما يعاد تدويره منذ سنوات.
لا نستطيع أن ننكر أن التحريض على عداء الآخرين والتأليب على كراهيتهم كانا سببين في كثير من المشاكل في مجتمعنا، وهنا لا نقصد شعور الكراهية الطبيعي الذي قد يشعر به الإنسان كردة فعل طبيعية رافضة لبعض التصرفات والأشياء والأشخاص، بل المقصود به تلك الكراهية التي تؤدي للعنف تجاه الآخر وتقوم على أساس التحريض على أذى من لا يتفق معهم وتشريعها بفتاوى وأمثلة وقصص من التراث غير موثقة وغير متفقة مع ما جاء به الإسلام من سلام وتسامح ومحبة مع الجميع. لأجل كل هذا وما نراه من تنامٍ لمشاعر الحقد والبغض للآخر وما يتبعها من انقياد من قليلي الوعي للمصدرين لهذه الكراهية وترجمة مشاعرهم الناقمة لسلوك عنيف ومؤذٍ؛ فإن إقرار مثل المشروع الذي قدمه عدد من أعضاء مجلس الشورى المسمى بنظام مكافحة التمييز وبث الكراهية ويجرم في بنوده من يستغل دور العبادة وموقعه الوظيفي أو منصات التواصل في تصدير التمييز والكراهية التي قد تؤدي لأعمال عنف وانقسامات في المجتمع، سواء كان منشأ هذا التحريض والتأليب المذاهب والفرق الدينية أو العرقية أو الجنسية أو القائمة على أسباب قبلية أو رياضية أو مناطقية، مثل هذا النظام يعد ضرورة ملحة في الوقت الراهن ليعيد للمجتمع الاتزان الذي يقوم على أساس من قبول الآخرين، وتفهم أن المجتمع المدني يقوم على التعددية والاختلاف، وعلى ضرورة وجود قوانين وأنظمة تحفظ السلم العام وتوقف المسيء والمتجاوز عند خطوط واضحة من الاحترام والتقبل.
إن كان الكثير من أفراد المجتمع فقد الأمل في جدوى ما يقدمه أفراد مجلس الشورى من أفكار وتشريعات وأنظمة، فإن الكثير أيضا يعوّل على من هم فيه لمساندة الدولة في خلق الأنظمة التي تحد من تفشي العنف والتطرف والاقتتال بسبب التحريض والتمييز والكراهية. ومن موقف لآخر يحدث في مجتمعنا بسبب انعدام القوانين التي تجرم التعدي على الآخرين بسبب تحريض سابق قائم على العنصرية والتأليب، ومن رمضان لآخر يصبح كل مساء ساحة للعراك المذهبي والقبلي والرياضي، فإننا أيضا نأمل أن يأتي رمضان القادم ونحن ننعم بوجود مثل هذا القانون ونتفاخر بأن مثل هذا النظام أسسه مواطنون مخلصون تحت قبة الشورى.
كما عاش مجتمعنا ردحا من الزمن تحت نير العنصرية والتمييز والتربص بالآخرين والتفنن في صنعة أسباب الكراهية، فإن الواجب علينا أفرادا ومؤسسات أن ننهض به من هذا المستنقع، كلٌ بما يستطيع من تنوير وبث روح التسامح وتقبل الآخرين، أو المساهمة في إعداد وتبني مثل هذه المشاريع والأنظمة التي تحمي المجتمع من ويلات الكراهية وتستبدلها بحرفة المحبة والتسامح.