تسعى دول الغرب ولا سيما الدولة الأعظم في العالم -الولايات المتحدة الأميركية- إلى تدمير الشرق الأوسط اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وإثارة الفوضى التي يسمونها خلاقة في أنحائه ومشروعها الجديد في أيرنة المنطقة، وحربها الفكرية التي تخوضها ضد قِيَم المنطقة ومبادئها، كل ذلك ليس من صالح هذه الدول، ولن تُحقق منه أدنى منفعة تخدم سيادتها أو تخدم استقرار ورفاه شعوبها، وإن زعمت ذلك، وأن المستفيد الوحيد هو الكيان الصهيوني، وهذه الدول العظمى بعظيم مُقَدَّرَاتِها إنما هي خَدَم للصهيونية العالمية وحُلُمِها الخطير الذي لم تستطع الوصول إليه حتى اليوم وهو تكوين إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.
هذا ما أشرت إليه في مقالي السابق، وقد حدث بعد نشره أن عُقِد في ألمانيا مؤتمر نادي بيلدربيرج وهو المؤتمر السنوي الرابع والستون لمجموعة كبرى من كبار المؤثرين في مجريات أحداث العالم من مُلَّاك الإعلام العالمي والسياسيين والمصرفيين وبعض قادة الدول الحاليين والسابقين من أوروبا والأميركتين، والجميع يحضرون بصفتهم الشخصية وليس الاعتبارية الرسمية.
وهو مؤتمر سري بمعنى أن الصحافة لا تدخل إليه ولا يمكنها أن تعرف ما يدور فيه، كما أنه لا يصدر عنه أي بيان ختامي من أي نوع وليست له دعاية.
قرأت كثيراً عن هذا المؤتمر قبل أن أكتب هذا المقال، ولفت نظري أن كل الكتابات عنه يغلب عليها كونها إعادة تدوير لمعلومات واحدة وليس فيها أي إبداع أو تجديد، وربما أصل كثير منها مقالة الصحفي الفرنسي تييري ميسان والتي ذكر أنه استقى معلوماته فيها عن أحد الضيوف السابقين للمؤتمر، ومن سجلات المؤتمر بين عامي 1954ـ 1966 التي حصل عليها حصريا كما يقول، ومع ذلك فمعلوماته ناقصة جدا ولا توحي بأنه حقا أخذها من سجلات بهذه القيمة وهذه الخطورة، كما أنه كتب مقالته العام الماضي على خلفية اللقاء الثالث والستين لهذا المؤتمر أو لهذا النادي كما يختار البعض في تسميته، ومن خلال تتبعي ظهر لي أن لقاء العام الماضي 2015 هو أول اجتماع لهذه النخبة يحظى بضجيج إعلامي وأن الاجتماعات قبله لم تكن لها هذه الهالة وذلك الضجيج، أي أن المؤتمر انعقد سنويا 62 مرة دون أن يثير ذلك ارتياب أحد أو فضول أحد من الصحفيين، فهل حدث هذا الضجيج اتفاقا وبمحض المصادفة أم أن ذلك كان مقصودا ويمثل سياسة إعلامية جديدة لرواد هذا المنتدى، أما أنا فأرجح الاختيار الثاني حيث أستبعد أن تجتمع شخصيات بهذه القوة من أوروبا والأميركتين سنويا أكثر من 60 مرة وتنجح في إخفاء نشاطها طيلة تلك الأعوام ثم يتم اكتشافها أو الترويج للكشف عنها فجأة ودون مقدمات.
وتَغَيُّر سياساتِ الجمعيات السرية وانتقالها من السرية المحضة إلى علنية نسبية ليس جديدا، فأكبر الجمعيات السرية في العالم وهي الماسونية غيرت سياستها في محافلها العالمية وأصبحت تدعو وسائل الإعلام للحضور والتصوير وإجراء اللقاءات مع الماسون، وبالطبع لم يكن الماسونيون الحاضرون في تلك المؤتمرات العلنية من أقطاب المنظمة أو المحركين لها، بل ولا من أرباب الدرجات العليا فيها، بل هم من المبتدئين أو من أرباب الدرجات الدنيا أو من الذين لا يؤثر الكشف عن هوياتهم على النمط السري للمنظمة، أياً كانت درجتهم، وهناك من تُكشف أسماؤهم للدعاية والترويج لهذه المنظمة كأسماء الكثير من العباقرة والأدباء والمصلحين الذين يغلب على الظن أنهم انضموا للماسونية انخداعا بشعاراتها البراقة وكثير منهم لم يتجاوزوا المراتب الأولى منها. بل إن التلفزيون الصهيوني في فلسطين المحتلة قد أُذِن له بنقل جزء يسير من أحد الطقوس الغامضة للقاء المحفل الماسوني في القدس، بل وكشفت عن اسم وصورة رئيس هذا المحفل حينها.
وعَوْدَاً على مؤتمر بيلدربيرج نجدُ الغالبَ على المقالات التي تحدثت عن هذا اللقاء، وصفها إياه بحكومة العالم الخفية، وهو وصف اشتهر إطلاقه على الماسونية، بل هو اسم أحد أشهر الكتب التي تحدثت عن أثر الماسونية في التغيرات التاريخية في مطلع العصر الحديث لمؤلفه سبيردوفيتش والمتوفى سنة 1926 ومع هذا الارتباط في الوصف بين نادي بيلدربيرج والماسونية إلا أن أحداً ممن قرأت مقالاتهم ربط بين المنظمة وهذا المؤتمر مع أن أوجه الشبه كبيرة جداً من حيث نوعية الحضور وسرية لقائهم.
ومع اعتقادي الشخصي بهذا الارتباط الذي لا أملك حتى الآن عليه دليلا ماديا سوى التشابه في الأسلوب والأهداف بل والنتائج فإنني أعتقد أيضا أن الاستثارة الإعلامية حول هذا المؤتمر وفي هذا الوقت بالذات لها أهدافها العميقة ولم تأت مصادفة أو نتيجة لنباهة مؤلف أو صحفي استيقظت فجأة.
أعتقد أن الأمر جاء لإرهاب السياسيين في الشرق الأوسط خاصة وإيصال رسالة إليهم مفادها: إن مصير العالم محسوم وأنه لا مناص لكم من الرضوخ لما يُطلب منكم دوليا، وأنكم مهما فعلتم فمصيركم ومصير بلادكم هو ما نقرره نحن لا ما تقررونه أنتم، نحن -الكلام على لسان أعضاء مؤتمر بلدربيرج- نحن عمالقة المال والسياسة والحرب في العالم، ولا يمكن أن تخرج الأمور في منطقتكم عما نريد نحن.
وهي رسالة خطيرة وسيئة المفعول فيما لو اقتنع بها أي من متخذي القرار أو مستشاريهم في الشرق الأوسط، فهي تدعو بحق إلى السلبية والإحباط وخلق قناعة بالعجز عن فعل شيء، أو أن أي فعل يمكن أن نبادر إليه في مواجهة هذه القوى العالمية سيكون مردوده منقلبا علينا،
والحقيقة التي هي محل الجزم عندي هي أن الماسونية العالمية التي حققت في السنوات الـ300 الأخيرة نجاحات كبيرة جدا تعاني اليوم من مظاهر عجز كبرى ومن مشكلات في إدارة العالم. لم تواجهها من قبل، لكن مظاهر العجز هذه لم تستثمر إطلاقا من شعوب العالم وقياداتها التي لا تريد السقوط في براثن الماسونية أو كما يزعمون حكومة العالم الخفية.
إن مكامن العجز التي يواجهها الماسون في إدارة العالم تحتاج من دول العالم الإسلامي خاصة دراستها ومن ثم ضربها بقوة، كي تنفك أعظم القيود التي كانت تحول بين المسلمين واستعادة نهضتهم.