بات من الواضح أن داعش يعيش في أيامه الأخيرة، على الأقل بالشكل الذي عرفناه فيه منذ عامين ونصف العام، فالوضع الميداني يشير بشكل لا لبس فيه إلى انحسار الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها داعش يوما بعد يوم، والحشود والتحضيرات العسكرية من جميع الأطراف تؤكدان أن انهيارات كبيرة قادمة قريبا لقوات داعش في مناطق أخرى.
فمعظم المناطق التي سيطر عليها داعش خلال العامين الماضيين في ريف حلب خرج منها الآن، وخروجه مما تبقى مسألة أيام، والحشود والتحضيرات على مشارف الرقة، والتنسيق الأميركي الروسي في هذه المحافظة التي يعدها داعش مركزه الرئيسي، إضافة للتصريحات الواضحة من القوى الكبرى، يؤكد أن معركة الرقة ستبدأ قريباً، وأن نتيجتها باتت محسومة، وعلى الجبهة العراقية يبدو المشهد مشابهاً وإن بزخم أقل.
الهزائم المتتالية لداعش وخسارته للمنطقة تلو المنطقة، وتراجع مصادر تمويله، وتوقف موجة الانضمام لصفوفه، وتراجع أعداد مقاتليه، واتفاق الجميع ضده، كل ذلك يشكل تأكيداً صافياً يقول إن هذا التنظيم قد انتهى، وإن هذه الظاهرة التي شغلت المنطقة والعالم آن لها أن تنتهي.
وبنفس الوقت يبدو الكل متفقاً على أن زوال هذه الظاهرة ليس بالسهولة التي يبدو عليها، وأن ما سيزول فعلياً هو دولة داعش وليس تنظيم داعش، وهذا أقصى ما يمكن الوصول إليه عسكرياً، وبالتالي فإن هذا التنظيم سينتقل لشكل جديد من "الجهاد" ربما يكون أشد خطورة على دول العالم جميعاً، لا سيما الغربية منها، فتلاشي حدود الدولة المزعومة، وزوال عرش الخلافة، سيحول آلاف المقاتلين المتبقين لقنابل موقوتة وأحزمة ناسفة تتحرك بحرية في مطارات العالم وشوارعه ومبانيه، وسيضع كل مكان في العالم تحت الخطر.
وسيساعد التنظيم الإرهابي الأول في العالم على تحقيق ذلك ثلاثة عوامل، الأول هو تعدد جنسيات أعضاء التنظيم وانتماء بعضهم لجنسيات أوروبية، مما يجعل حركتهم وانتقالهم عبر المطارات والدول سهلاً، ويساعدهم كذلك على الاختفاء بين الناس في المطاعم والمتاجر ومحطات السفر، والعامل الثاني هو الخبرة القتالية والتقنية التي اكتسبها هؤلاء المقاتلون خلال فترة تمددهم في سورية والعراق، وتمكّن الكثير منهم من صنع العبوات المتفجرة وتفخيخ الكثير من الأشياء تبدأ بالسيارات وتنتهي بأجسادهم، وامتلاكهم لكثير من الخبرات والتقنيات في "مجال عملهم" وهو قتل الآخرين، العامل الثالث هو العقيدة العميقة التي يحملها مقاتلو التنظيم والتي سيفاقمها تعرضهم للهزيمة في سورية والعراق، وزوال دولتهم وموت أشخاص قريبين منهم، مما سيخلق نزعة انتقام تتضافر مع نقمتهم الأصلية على العالم، وتحولهم إلى قنابل موقوتة في أي مكان يحلون به.
في تقرير للأمم المتحدة صدر حديثاً تبين أن "داعش" بالإضافة لعملياته اليومية في سورية والعراق وليبيا اليمن وأفغانستان، والتي يذهب ضحيتها العشرات يومياً بأشكال مختلفة، نفّذ منذ بداية العام الحالي عمليات في روسيا وألمانيا وإندونيسيا وباكستان وبلجيكا وبنجلاديش وتركيا وفرنسا ولبنان ومصر والولايات المتحدة، أسفرت عن مقتل 500 وجرح المئات. ويمثل هذا التقرير صرخة تنبيه من المنظمة الدولية لداعش التالية التي تتربص بالعالم، ويعني أن على دول العالم رفع جاهزيتها والاستعداد لخطر دائم يتربص بها في كل لحظة.
المعلومات الواردة من ليبيا تقول إنها باتت تشكل مصدر التمويل الجديد لداعش وخصوصاً من عائدات النفط وفرض الأتاوات ومن مصادر أخرى، وأن ما يأتي من ليبيا يمكن أن يكون تعويضاً لمصادر التمويل التي خسرها التنظيم في سورية والعراق، بعد أن فقد السيطرة على الكثير من المناطق التي تحوي آبارا نفطية، وكذلك بسبب شلّ قدرته التقنية على استخراج النفط ونقله، بعد الضربات الجوية المتلاحقة لمراكزه وقوافله، وقرب ليبيا من السواحل الأوربية، ووجود حركة تهريب بحري نشطة بين الشواطئ الجنوبية والشمالية للمتوسط سيكون عاملاً إضافياً يسهل المشروع الداعشي الجديد في أوروبا، ويفاقم من خطر تعرض الدول الأوروبية لعمليات إرهابية. والتقرير الأممي الذي ذكرناه يحذر دول العالم من مخاطر داعش، ويطلب منها رفع مستوى استعداداتها الأمنية وزيادة التنسيق فيما بينها لإحباط العمليات الإرهابية المحتملة.
بالنهاية وطالما أن جذور الإرهاب لم يتم العمل على معالجتها على المستوى العالمي، فإن داعش سيبقى خطراً محدقاً بالعالم كله، وستتغير أشكال التنظيم وطريقة عمله، وربما يتغير اسمه، ويتوزع على أسماء عديدة، وتنظيمات متعددة لا رباط بينها، سوى رباط الموت.