هنالك بشر يحسبونها بالورقة والقلم، ولا يتحركون قبل اتخاذ جميع سبل الاحتياط كي لا يقعوا في مشكلة لا سمح الله، وعلى الجهة المقابلة هنالك من يتحرك أولا ثم يفكر ثانية، لا أقول إن أحدهم أفضل من الثاني، ولكن أحيانا تشعر بأنك تتحرك لمجرد إحساس بداخلك يدفعك وتسير وعيناك لا تركزان إلا على الهدف، لا يخطر على بالك أنك قد تكون سائرا إلى قلب العاصفة، ربما تمر عليك لحظات تلاحظ فيها ذلك الجرس الذي يدق بداخلك لينبهك إلى أن شيئا ما غير صحيح أو أنك في خطر، ولكن سرعان ما تلغيه أو تخرسه وتكمل طريقك لأن هنالك كمية من المشاعر بداخلك تمكنت من كل ذرة من كيانك تمنعك من الإصغاء! كم من مرة صادف أن وجد المرء نفسه في موقع خطر، وقد يكون واجه الموت وسأل نفسه بلحظتها: كيف نجوت؟ ولأكثر من مرة سألت نفسي هذا السؤال، وكانت الإجابة لو أنه كان يومي لما تقدم أو تأخر، ولكن الذي تبين لي فيما بعد أنني أيضا كنت الوسيلة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يخفف من خلالها عن أحد عبيده.

هنالك قصص كثيرة لي مع الموت منها صدف لم يكن لي يد في الأمر ومنها تهور من قبلي، ولكن كنت دائما أنجو برحمة الله وعنايته، لم يخطر ببالي أن أسأل يوما: "لماذا أنا"؟ لما نراه يوميا من مآسٍ تحدث من حولنا من حروب وهمجية، ولكن الذي تعلمته مما يسميه البعض تهورا أن الله سبحانه وتعالى كتب لي الحياة من أجل أن أكون فيها وسيلة.

الآن ما سأرويه ليس لأي سبب سوى العبرة، حدث يوما أن اتصلت بي إحدى طالبات الكلية وطلبت مني مساعدة امرأة عجوز معاقة لا تستطيع السير على قدميها ولها ابن متخلف عقليا ولا يستطيع أن يسمع أو يتكلم، كل ما أعطتني من العنوان هو الحي واسم الجامع الذي تسكن بجانبه وكنيتها "أم فلان"! تسارعت الأسئلة إلى عقلي: هل القصة حقيقية؟ ماذا إن كانت حقيقة؟ ماذا إن كانت هذه العجوز في حالة لا يمكن الانتظار إلى أن أسأل وأبحث لها عمن يساعدها؟ فقررت التحرك، شيء ما بداخلي كان يدفعني للتحرك دون المزيد من التفكير! تهت في الشوارع وعند أذان المغرب وجدت نفسي في ساحة لا يوجد بها أحد، هنا نظرت إلى أعلى وخاطبت خالقي: "يا إلهي إن كنت كتبت المساعدة لهذه المرأة على يدي، ساعدني كي أجدها"، هنا سمعت صوتا من خلفي: "ماذا تريدين يا ابنتي"، التفت فوجدت رجلا عجوزا كان يجلس على كرسي خشبي قديم في طرف الساحة، اقتربت منه وأعطيته اسم المسجد ودلني، فلقد كنت على الطرف الآخر من الموقع، شكرته وأكملت وحين وصلت إلى المسجد نظرت حولي وأنا أسأل نفسي: "ماذا الآن"؟! فطلبت من السائق أن يدخل الدكاكين التي كانت أمامنا ليسأل عن المرأة، ولكنه عاد دون إجابة! هنا وجدت طفلا في العاشرة من عمره يسير بجانب النافذة، ففتحتها وسألته فقال لي:" أم فلان المعاق؟ نعم أعرفها ولكن لا يمكنك أن تدخلي بالسيارة، يجب أن تأتي معي سيرا على الأقدام"! هنا لم أفكر ترجلت فورا ولحقت به، دخلنا أزقة ضيقة جدا، وعلى بعد عشر خطوات من مسجد قديم وصغير وصلنا، توقف الطفل وأشار بيده إلى الباب، فطرقته ولكن لم يجبني أحد، كنت أسمع أنينا بالداخل ونظرت من النافذة فوجدت المرأة على الأرض وخلفها جلس شاب لا يتحرك وكأنه في عالم آخر! وهنا دفعت الباب ودخلت وما وجدته مزقني تمزيقا! 

وجدت بقايا إنسان ممدا على سجادة مهترئة، تفوح من جسدها رائحة كريهة جعلتني أشعر بالغثيان والاختناق، وذلك حسبما فهمت فيما بعد أن ابنها كان يجرها إلى حيث ما يسمى المرحاض لكي تقضي حاجتها؛ تراب من غير بلاط، ثم يجرها فوق القاذورات ثانية ليعيدها إلى مكانها! اقتربت منها لأجد أن جسدها تعلوه مناطق زرقاء وكأنها تعرضت للضرب! أمسكت بيدها وأخذت تحدثني بلهجة لم يصلني منها سوى الألم! نظرت حولي ولم أجد شرابا أو طعاما! فوقفت لكي أذهب وأحضر لها بعض الطعام، وإذا بها تتمسك بيدي وتهمس من خلال أدمعها: " لا تكبيني لا تكبيني"! وهنا خانتني أعصابي وأجهشت بالبكاء! لأول مرة في حياتي شعرت بأنني ضعيفة، بأنني جاهلة ومتهورة! فكيف أحضر إلى مكان وأنا غير مجهزة على الأقل بمن يساندني أو حتى أحضر طعاما معي، كيف لم أتوقع أن من كانت بحاجة للمساعدة بالتأكيد بحاجة للطعام؟!

لا أعرف كيف أخرجت الهاتف واتصلت بمكتب صحيفة "الوطن"، وقد أخذت بعض الوقت لكي أشرح من خلال بكائي ونواحي ما أريد! ووجدت صعوبة في إعطائهم العنوان لأنني أنا نفسي لم أكن أعرف أين أنا! ثم وأنا في انتظارهم أرسلت السائق لكي يشتري لها الطعام، وأطعمتها وهي ممسكة بيدي خائفة أن أذهب وأتركها! وحين حضر فريق الجريدة استغرب كيف دخلت مثل هذا الحي الذي يعتبر خطرا، ثم بدأ الناس بالتجمع وعلمت منهم أطراف القصة ومن كان يضربها ولماذا، وهنا التفتت إليّ إحدى النساء وقالت: "من الأفضل أن تنسحبي الآن لأنهم لو جاؤوا ووجدوك هنا لن تسلمي من أذيتهم، الله ستر أنك سليمة إلى الآن"! تركتها على مضض، ولكن في أيدٍ أمينة، ففي اليوم الثاني ظهرت صورتها في الجريدة مع حالتها، وتحرك الوزير وأرسل فريقا نقلها لأحد الأربطة مع ابنها.

بعدها بفترة اتصلت بي الطالبة لتسألني عما فعلت، فأخبرتها بأنها بخير وتم مساعدتها، وهنا لم أستطيع أن أمسك نفسي من سؤالها: "لماذا أنا؟ لماذا لم تتجه للداعيات في الكلية وهم كثر ولله الحمد، إضافة إلى أنهن قادرات وذوات خبرة في هذه الأمور؟"، كانت إجابتها بمثابة صدمة لي: "يا أستاذة حين كنت جالسة في بيت الجيران وسمعت القصة، وجدت أن اسمك هو ما ظهر في رأسي"، وهنا سألتها: "هل تعرفينني، أعني هل أنت من طالباتي"؟، أجابت:" كلا بل لم أسمع بك من قبل، كل ما هنالك أنني حين ذكرت اسمك لزميلاتي في الكلية قالت إحداهن إنك تدرسينها وأعطتني الرقم، ترددت لكني في النهاية اتصلت"!

أحيانا من كثرة ذنوبك تظن أن الله سيصب غضبه عليك في أي لحظة، وإذا بك تجد رحمته تغمرك من رأسك حتى أخمص قدميك. وتنظر للصالحين من حولك وتقول في نفسك: "أين أنا منهم"! لتجد أن الله سبحانه وتعالى قد رأى ما بداخلك وعليه اختارك أنت لهذا الخير دون غيرك لإنزال رحمته عليك وعلى أحد من عبيده. وقبل أن تلوم نفسك على خوضك مواقف تعلم أنك تخاطر بها في حياتك؛ يسميها البعض تهورا، لتعلم أنه طالما الله أرسلك فلسوف يحميك إلى أن تتم مهمتك. إنه ليس امتحانا بل رحمة من رب العالمين يريد بها أن يطهرنا ويذكرنا أنه أقرب إلينا من حبل الوريد.