سمعنا كثيراً قبل اليوم عن حالات تزويج القاصرات وكتب الكثير عن الجوانب الحقوقية والنفسية والاجتماعية، فضلاً عن الإنسانية، المترتبة على مثل هذه الحالات. لكنها حالة تأتي هذه المرة موثقة بالصور والأسماء والأماكن مما يجعلها أكثر قسوة وأشد إيلاماً. فمن رأى صورة لصفقة الطلاق، وليس الزواج، والذي ساهم فاعل خير في إنهائها بتبرعه بالمبلغ الذي طلبه الزوج الثمانيني كشرط لإتمام الطلاق من فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، لا بد أن تكون الدهشة، إن لم يكن الغضب، قد أصابته جراء مثل هذه الحالات المشروعة والممارسة في مجتمعنا.
جاء الخبر يحكي التفاصيل والأسماء، وجاءت الصور لتعكس "صفقة" أو بالأصح "إنهاء صفقة" هي لا شك ندبة غائرة في جبين المجتمع. إن المتأمل في تفاصيل ما حدث يرى بسرعة أركان المأساة: أب معدم شكلت الطفلة له ولأولاده طوق نجاة، وطفلة ربما لم تع ما تعنيه هذه الصفقة، وربما وعت ملامح أبعادها لكنها أدركت بحس طفولي محنة الفقر التي تعيشها أسرتها، وكهل ثمانيني قرر الزواج أخيراً، فقصد قاصرة لا تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها وتعلل بالشرع الحنيف.
يقول الخبر (عكاظ): "أسدل الستار أمس على قضية زواج فتاة صبيا القاصرة، وذلك بعد أن حرر فاعل خير من جدة شيكاً بمبلغ 17 ألف ريال باسم زوجها الثمانيني الذي اشترط على والدها إرجاع المبلغ الذي دفعه صداقا لزواجه مقابل الطلاق، وتسلم الزوج المبلغ في مركز الكدمي بحضور رئيس المركز فيصل بن لبدة، وتمت إجراءات الطلاق في محكمة صبيا". أما الصورة المرفقة فهي للزوج الثمانيني الذي أنهكته السنون، وهو يتسلم المبلغ الذي دفعه ثمناً لشراء الزوجة القاصرة، وقد غابت صورة قطيع الأغنام (100 رأس من الغنم)، والتي استردها الزوج الثمانيني أيضاً باعتبارها مكملة لثمن صفقة شراء الزوجة القاصرة "نورة" التي تمت بينه وبين والدها. غير أن الخبر أرفق صورة للطفلة التي بيعت في هذه الصفقة مجللة بالسواد أمام خيمة جدها "محمد عتين" والذي سجل موقفاً إنسانياً حازماً في هذه القضية ووقف ضد هذا الزواج وأبطل "صفقة الغنم" حيث رأى أن حفيدته عاشت أياما من الحزن والكآبة بعد تزويجها من رجل طاعن في السن مقابل 17 ألف ريال و 100 رأس من الغنم.
ولكن الأركان الحقيقية لهذه المأساة تتعدى بكل تأكيد اللاعبين الأساسيين فيها. إنها تتعدى الأب الفقير، أو الطامع سيان. وهي تتعدى الطفلة المكرهة، أو الراضية سيان. وهي أخيراً تتعدى الكهل الثمانيني الراغب في الزواج، أو في مداعبة الأطفال سيان. إن هذه المأساة في عمقها تمتد لتشمل ثلاثة أركان أشد وطأة على النفس من وقع الحسام المهند. إنها تبدأ بغياب كامل لقانون واضح صريح غير ذي لبس ولا التباس؛ قانون يحفظ للطفل براءته، ويحفظ للمجتمع كرامته الإنسانية. ومن ثم تمتد المأساة إلى مجتمع تعرقل خطواته تأتأة حُفرت حفراً عبر التقاليد التي تجاوزها الزمن، فضلاً عن تصادمها مع القيم الدينية العليا. وأخيراً تمتد المأساة إلى كتّاب عقود الزواج الذين آنس فيهم المجتمع فضلاً وخيراً، فآثر البعض منهم تغييب عقله وحسه الأبوي وراح يركب موجة التحدي، فيوثق عقداً كان من المفترض أن يرى بطلانه من غير ما مشقة. هذه هي الأركان الحقيقية لهذه المأساة. أما اللاعبون المباشرون فيها، فهم أقرب إلى كونهم ضحايا منهم إلى كونهم جلادين. وهؤلاء جميعاً في اعتقادي لا تقع عليهم أي مخالفة قانونية، رغم أنهم كل من موقعه يتحملون مباشرة وزر هذه الصفقة، لأن القوانين التي يحتكم إليها المأذون لإتمام عقد هذا الزواج تخلو من نص واضح يقف حائلاً دون توقيع الصفقة.
من الواضح أن تزويج القاصرات بالإكراه أو بالتدليس هو زواج فاسد وباطل، لأنه يخل بأحد شروط الزواج الشرعي وهو القبول. و"إذا تم إجبار الفتاة على الزواج فلا بد أن يفسخ العقد" كما يقول الشيخ عبد المحسن العبيكان مستشار وزير العدل عضو مجلس الشورى. أما إذا أقرت الطفلة بموافقتها، وانتفى الإكراه الظاهر، فلا بد من أن يحكم المأذون الكثير من المنطق والعقل، بل ومسحة الأبوة أيضاً، ليستشف ما وراء الأمر، لا أن يسارع في توثيقه.
ومن المؤسف أن تتأخر وزارة العدل عن إصدار القوانين الملزمة والتنظيمات الواضحة لمنع مثل هذه الصفقات التي تتم باسم عقد شرعي يفترض فيه أنه عقد زواج يحترم كرامة المرأة ويسعى لإنشاء مؤسسة قائمة على السكن والرحمة. إن وضع ضوابط لمنع زواج القاصرات بات أمراً إنسانياً ومطلباً حقوقياً لا يحتمل التأجيل. وبالرغم من إسهام الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان ومجلس الشورى الموقر في الدفع نحو إيجاد الضوابط التي تحول دون هذه الممارسات، إلا أن وزارة العدل مازالت تبدو عاجزة عن ذلك. لقد سمعنا ما صرح به معالي وزير العدل الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى من أن الوزارة شرعت في الإعداد لتنظيم جديد يقنن زواج القاصرات في المملكة. وأن هذا التنظيم الجديد يأتي انطلاقاً من قاعدة أنه "لا تلازم بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي"، مشيراً إلى أن هذا النظام يأتي لحفظ الحقوق ودرء المفاسد بما يقضي على المظاهر السلبية في تزويج القاصرات، لافتاً إلى أن دراسة النظام تتضمن آلية واضحة لتزويج القاصرات وما يتعلق بهذا الموضوع كاملاً، ومشيراً إلى قرب موعد الإعلان عن ضوابط الدراسة اللائحية.
وغنيٌّ عن القول أننا نبات ليلنا ونصبح نهارنا، نراجع قوانين الأسرة ونقلب صفحات الصحف، فلا نجد للتنظيم أثراً ولا للائحته من رائحة. وتستمر المأساة!