يتناول الفيلسوف البريطاني الشهير (جون ستيوارت مل) في كتابه "عن الحرية" قضية الصراع بين السلطة والحرية معتبرا إياها إحدى السمات الأبرز في التاريخ، متسائلا عن الحدود المنطقية بين الفرد والمجتمع، أي الحدود بين سلطة المجتمع على الفرد، وسلطة الفرد على نفسه.

وأكد (جون ستيوارت مل) أن كل فرد يتلقى حماية من المجتمع فإنه يدين له بشيء من الالتزام مقابل هذه "المنفعة"، وبالتالي يلتزم الأفراد بسلوك عام يتمثل بعدم الإضرار بـ"مصالح" بعضهم البعض، ولا سيما تلك المصالح التي تعتبر "حقوقا" سواء بشكل صريح أو ضمني، كما يجب أن يتحمل كل شخص حصته من هذا الالتزام لبذل الجهود والتضحيات -بشكل متساوٍ- لأجل حماية المجتمع وأفراده من الأذى والتحرش.

ويرى (مل) أنه حين تُعتبر أفعال الفرد مؤذية للآخرين، قد يعاقب عليها اجتماعيا بشكل ما وإن لم يعاقب عليها قانونا، ولكن إن كانت هذه الأفعال مضرة فعلاً فإن المجتمع يستطيع تفعيل السلطة القضائية ضده، ولكن عندما تكون أفعال الفرد غير مؤذية للآخرين ولا ضارة بمصالحهم، فإنه لا بد أن تكون هنالك حرية تامة -قانونيا واجتماعيا- تكفل القيام بالفعل وتحمل تبعاته، وبالتالي فإن السلطة التي يمتلكها المجتمع على الفرد هي سلطة جزئية وغير مباشرة -باستثناء سلوكه وأفعاله تجاه الآخرين- أما ما يتعلق بـ"مشاعره وظروفه" فإن شأنا خاصا به، هو قادر على معرفتها وتمييزها.

 كما يؤكد (مل) أن الشخص الذي يتصرف على نحو يجعل الآخرين يحكمون عليه بأنه "أحمق" أو "وضيع" و"عديم الذوق" فإن هذا الأمر من منطلق حقهم في الحكم عليه من منطلق الرأي، ليس في قمع فرديته بل بممارسة فرديتنا، إذ لدينا الحق في تجنبه لأننا نملك الحق في اختيار المجتمع المناسب لنا، في ضوء امتلاكنا الحق في تحذير الآخرين منه، الذي يعتبر واجبا أحيانا، خاصة إذا ما اعتقدنا أنه يمتلك تأثيرا على الذين يرتبط بهم.

فمثلا الشخص الذي لا يستطيع لجم نفسه عن الانغماسات المؤذية ويسعى باستمرار إلى الملذات الحيوانية على حساب العقل والعواطف، عليه أن يتوقع أن يكون "واطئا" في رأي الآخرين، وبالتالي فإن انزعاجه من حكم الآخرين هو بسبب سلوكه وشخصيته ولا يحق لهم الإضرار بمصالحه نتيجة هذا الحكم، كما لا يحق له التأثير على مصالح الآخرين نتيجة حكمهم، ولا يحق له ارتكاب أفعال مؤذية بحقهم، ولا حتى الامتناع عن الدفاع عنهم ضد الأذى، والزيف والازدواجية في التعامل معهم، والاستخدام اللئيم للامتيازات عليهم، كلها أمور تدعو إلى الرفض والاستنكار الأخلاقي.

  بل يذهب جون ستيوارت مل إلى أكثر من ذلك معتبرا أن "اللا أخلاقية" ليست في هذه الأفعال فقط، بل في الميول والاتجاهات التي أدت إليها، فقسوة الميل والاتجاه، والطبيعة الحاقدة والمريضة، والحسد-الصفة الأكثر عدائية للمجتمع- والنفاق وعدم الإخلاص، والاستفزاز، وحب السيطرة على الآخرين، والرغبة في الهيمنة على امتيازات أكثر من حصة الفرد وهو ما سماه الإغريق بـ"الطمع"، والغرور المتجسد بإهانة الآخرين، والأنانية المتمثلة بالاعتقاد بأن الذات أهم من أي شيء آخر، كل هذه الأمور المشار إليها يعتبرها (مل) رذائل أخلاقية.

لكنه في المقابل يعتبر أن الفرد الذي يتسم بهذه الرذائل، سواء أكان موضع شفقة أو عدم محبة لدينا؛ فإنه يجب ألاّ يعامل باعتباره عدوا للمجتمع، ويميل العديد من الناس إلى عدم التفريق بين الجزء الذي يخصّ الشخص وحده وبين الجزء الذي يخص المجتمع، ولا سيما في القضايا التي لا تقع تحت طائلة القانون.

ويعتبِر (مل) أن الأشخاص الذين يلحقون الأذى بأنفسهم بأي شكل كان هم يلحقون الأذى بالمجتمع، ولهذا يجب أن يخضعوا لما يسميه "العقاب العادل"، إذ كلما كان هنالك ضرر محدد فإن القضية تخرج من مجال الحرية إلى مجال القانون والأخلاق... ولكن "الجدل" المهم في الأمر هو أن المجتمع (الجمهور) حين يتدخل بالسلوك الشخصي قد يتدخل بشكل خاطئ وفي مكان خاطئ ربما، وعلى الرغم من أن رأي الأغلبية السائدة يعتبر غالبا هو الرأي الصحيح، إلا أنه عادة ما يكون خاطئا لأنهم في مثل هذه القضايا يكونون ملزمين بالحكم من خلال مصالحهم الخاصة، وخاصة إذا ما سُمح بممارسة نمط سلوكي معين فيه تأثير عليهم، ولكن رأي الأغلبية المشابهة إذا تم فرضه على الأقلية بوصفه قانونا فإنه من المحتمل أن يكون خاطئا ومن المحتمل أن يكون صائبا أيضا.

وينبه (مل) إلى قضية في غاية الأهمية، وهي أن رأي الجمهور في مثل هذه القضايا -في أحسن حالاته- هو رأي "بعض" الناس حول ما هو جيد أو ما هو سيئ للبعض الآخر، فهناك كثيرون يعتبرون أن أي سلوك لا يحبونه ولا يفضلونه هو سلوك مؤذٍ لهم ومستفز لمشاعرهم، كالمتعصب الديني الذي عندما يُتّهم بعدم احترام المشاعر الدينية للآخرين يبادر للإجابة بأن الآخرين لم يحترموا مشاعره!