تجرعت الحكومة التركية السم بقبول إعادة العلاقات التركية الإسرائيلية والروسية وبهذه السرعة؟ رغم دهشة الكثيرين من هذا التصرف السريع والمفاجئ إلى حد ما؛ ولكن ما دفع الأتراك إلى هذه الخطوات غير المرغوب فيها عدة عوامل أبرزها، المماطلة الأميركية في حلحلة الملف السوري لصالح الشعب السوري، بل التسويف لإنهاك هذا الشعب وقبوله بما يقدم له من حلول لاحقا حسب وصفة ديتون المشؤومة في البلقان بعد إنهاك البوسنيين، وطبعا هنا ستخطئ الإدارة الأميركية في تقديرها هذا، فلن يقبل الشعب السوري بأقل من رحيل ومحاسبة زمرة بشار، ولو استمرت المعركة لقرن قادم.

إذن الأتراك ملوا تسويفات الأميركان ومماطلاتهم وعدم تقديمهم أي حل حتى نصف عادل للملف السوري، وأدركوا ما يخطط له الأميركان في الحقيقة. أدركوا ذلك عندما لم يقف الأميركان وحلف الناتو مع تركيا وهي العضو الثاني الأكبر في هذا الحلف ضد روسيا إثر إسقاط تركيا للطائرة الروسية، بل كانت المواقف الغربية الأطلسية باهتة وغير ذات قيمة حقيقية، بل كانت بقدر رفع العتب لا أكثر، وما تلا ذلك من تصعيد روسي خطير في المنطقة من دعم لبشار وأيضا دعم أكراد سورية علنا للانفصال، وفتح مكتب لهم في موسكو وبذات الوقت دعم الأميركان لذات المجموعة بإقامة دويلتهم ولو بضم أراض ليست لهم ولا يمثلون فيها حتى صفر في المئة، ومنها منبج مثلا التي يحاولون إسقاطها واحتلالها بمساعدة الأميركان، متخطين بذلك كل الخطوط الحمراء التي وضعتها تركيا بعدم السماح لهذه المجموعات الإرهابية بالتقدم خاصة غرب نهر الفرات.

فالأميركان يخططون لشيء أهم وأبعد من قيام دويلة كردية في شمال سورية تقوم على أرض لم تكن يوما كردية، وهذا يمكن الرجوع إليه وإلى الأكراد أنفسهم أو جزء منهم على الأقل، والذين يعتقدون أن جذورهم تعود للميديين هؤلاء سكنوا بلاد فارس لا الشام.. هذا يمكن الرجوع له عند مؤرخين أكراد، منهم المؤرخ الكردي محمد أمين زكي في كتابه خلاصة تاريخ الكرد..

هذه الدويلة المنشودة تكون عدوة لجميع من حولها أولا، فتكون معتمدة اعتمادا تاما على أميركا والغرب وإسرائيل الذين يعادون طموحات أهل المنطقة بدورهم، ويتطلع الأميركان لإقامة قواعد عسكرية بديلة عن تلك التي في تركيا، حيث إن الجغرافية هي ذاتها، بفارق أنهم يستطيعون أن يبنوا ما يريدون هنا ولا أحد يستطيع أن يعترضهم باستخدام هذه القواعد، كما تفعل تركيا أحيانا وهو ما يغضب الأميركان، فقرروا استبدال تلك القواعد بهذه التي بدؤوا فعليا في إنشاء مقدماتها في شمال سورية..

الموقف الروسي من الأكراد كان موقفا كيديا بأنقرة ليس إلا، وليس إستراتيجيا، فالتقارب مع روسيا قد يحل للأتراك بعض المشاكل، منها عدم دعمهم الأكراد كما اليوم، لأنه موقف كيدي متعلق بأزمة الطائرة الروسية، وبتصفية الأجواء بين أنقرة وموسكو سيزول هذا الدعم، إلا أن ما تخطط له الإدارة الأميركية والغرب عموما بدعم الأكراد سيستمر، حيث لا وعود صادقة للعم سام، وتاريخ وعودهم الكاذبة حاضر أمامنا، رغم أنهم كرروا مرارا وتكرارا عدم دعم مشروع انفصال الأكراد في سورية إلا أن واقع الأمر وما يقومون به على الأرض يخالف تصريحاتهم، فهم يعملون ليل نهار وبجود مضاعفة جدا لتمكينهم من احتلال أراض عربية نسبة الأكراد فيها صفرية، أي لا يوجد فيها كردي واحد، ومثال على ذلك مدينة منبج، والاتجاه إلى الرقة وغيرها، وهنا يصر الأميركان على خلق هذه الدويلة العدوة لكل جيرانها، ومنهم تركيا لتكون منطلقا آخر لتفكيك تركيا ذاتها، وهنا أدركت القيادة التركية..

أدركت تركيا بعد كل هذا أن عليها أن تقوم بعمل ما يحفظ مصالحها وأمنها القومي، فتقاربت مع إسرائيل، لعل الأخيرة تضغط على الأميركان بعدم دعم الأكراد وتمكينهم من خلق دويلة معادية لتركية والمنطقة، وكذلك التقارب مع الروس وتحييدهم في قضية الأكراد..

طبعا كان العامل الاقتصادي المهم حاضرا في كل هذه المقاربات، والذي تأثرت به تركيا وروسيا وإسرائيل.. إلا أنني لا أميل إلى أن هذا العامل هو الذي حدا بالأتراك بتجرع السم، وذلك للمعرفة بالعقلية التركية العنيدة جدا، لكن تقسيم بلادهم أصبح هدفا أمام أعينهم، وهذا ما دفعهم لهذه الخطوات.

قد تصفو العلاقات الاقتصادية بين موسكو وأنقرة من جهة وحتى بين تل أبيب وأنقرة من جهة ثانية، بل قد تنمو إلى الأفضل، لكن سيمضي الأميركان في لعبتهم إلى تفتيت المنطقة على أساس أثني عرقي وطائفي، بمساندة الأقليات وتمكينهم، منهم الأكراد، لقضم أكبر مساحات ممكنة من الجيران، مما يسبب الآن وسيسبب بإقامة عداوات وحروب لن تنتهي، والمستفيد الأول هو من يصدر السلاح ويهيمن على القواعد العسكرية..!