ليس في الوحدات الاجتماعية كالأسرة والقبيلة والطائفة، بوصفها معاني قائمة في الغالب على مُحَدِّد الميلاد، ما يشد الانتماء إلى زاوية الاتهام أو أمثلة الإقصاء. إنها معابر قد يتخذها المرء لبناء جسور مع الآخرين، تصله بهم ويروي بها جفاف المسافات الناجمة عن النأي وأرشيف الصور المسبقة، أو يمضي من خلالها إلى التقليل من شأنهم، متوسلا لغة استعلائية، لا نعدم شواهدها في أيامنا هذه، تطال النفيس الرمزي قبل المادي في معاش الضفاف الأخرى التي تصور كمقار للـ"برابرة"، بالمعنى الإغريقي، الدالة على غرباء يجدر بالذات الواصفة التمايز عنهم وتعيينهم حلولا لأزمات مُرحَلَة، كما تفصح خاتمة القصيدة الشهيرة لقسطنطين كفافي (في انتظار البرابرة). عنوان القصيدة ذاته كان على غلاف رواية للكاتب الجنوب إفريقي جي إم كويتزي الحائز جائزة نوبل للآداب 2003، نشرها في ثمانينات القرن المنصرم، حين كان نظام الفصل العنصري في بلاده حاكما باسم الأقلية البيضاء.
في نفس الحقبة التي شهدت ولادة رواية كويتزي، كان لبنان مسرحا لحرب أهلية، أخذت الطائفة إلى مرجعية ناوشها الدم، وسكبت على نار الاحتراب زيت الانقسامات العربية والتوسع الإسرائيلي ومصالح القوى الكبرى؛ فقسمت بيروت إلى شرقية وغربية، وأضحت مكانا أُمميا بامتياز تجرب فيه أسلحة الدبلوماسية والأيديولوجيا، ولم تستطع قشرة "الحداثة" التي دفعت إلى تسمية العاصمة اللبنانية بـ"باريس الشرق"، أن تخفي أوتاد الطائفية. ذهب كل فريق في الحرب إلى رسم عالم تكون فيه "قيمه" و"رجاله" ثقافة عُليا تختصر العمق وتبشر بواقع يسمو على وضاعة الجبهة المقابلة، على نحو أظهر آرييل شارون، وزير الحرب الإسرائيلي حينها، اسما محررا في كلمات الشاعر سعيد عقل الذي كان أحد الأعمدة التعبوية لفريق لبناني اختلف مع المنظمات الفلسطينية وقاتلها، فرأى في الجيش الإسرائيلي مخلصا! جذور هذا الخليط من الاقتتال الطائفي والتداخلات الدولية أرجعه البعض إلى أحداث عام 1958 التي أحدثت صدعا بين مؤيدي القومية العربية وزعيمها جمال عبدالناصر، غالبيتهم من المسلمين، ومناصري الرئيس كميل شمعون الذي بدا مؤيدا لوجود أميركي أكبر في المنطقة بعد انسحاب القوتين الفرنسية والبريطانية إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وإذ تبدو بعض صراعات الماضي القريب مستترة تحت أغطية أيديولوجية تتبادل الاتهامات بعيدة عن المنشأ الديني أو المذهبي، ويلحقها الوصف الطائفي بالتعريف، إلا أن الطائفية في منطقتنا هذه الأيام باتت تسبغ على كراهيتها ألقابا دينية، وتتخذ من مقدسات الناس مطية سهلة للوصول إلى غايات يتجاور فيها التنكيل المسلح والمعنوي. فالعنف، كوسيلة تطل على كوامن الذات، أضحى "قناة اتصال" بالكاد يخلو منها فضاء إعلامي، وترمي في كل مرة إلى توكيد التباين، من غير أن يفكر معتلو منابرها أنها قد تنفجر في "حقائقهم" يوما ما. ليس المطلوب أن نقر أي فريق على صحة مسعاه، أو أن نمسك بـ"الصواب السياسي" كلافتة يمنع تحتها أي نقد، بل الواجب أن نرى التعميم خللا، ورد عدوان المرء إلى طائفته محض صبيانية فكرية.
الحالة العراقية، التي تستحوذ على الاهتمام راهنا، أبانت عن جرائم للحشد الشعبي في الفلوجة ارتكبها مسلحون شيعة مدانون ومذَكِّرون بنوازع شيطانية لا تمت لأسوياء أي مجتمع بشري بصلة. بهذا المعنى، صب اللعنات على أتباع مذهب ينتسب إليه مجرمون، كالذين رأينا أيديهم ملطخة بالدماء في الفلوجة وسواها من مدن عراقية، ليس مما تبنى به المجتمعات، خاصة أن المشاهد المأسوية وصيحات التأييد والتنديد تعبر الحدود، وتعطل القدرة في كثير من الأحيان على إقامة التمييز بين الفاعلين ومرجعياتهم التي تختلف زوايا النظر إليها، وتتعدد القراءات لمفاهيمها غير القطعية.
وإذا كان النموذجان اللبناني والعراقي استولدا في السياسة محاصصة طائفية، رعتها ثقافة اجتماعية، ونفخ فيها من صناع القرار والرأي من يرى استمراره في استمرارها، إلا أن حاضرهما يكشف تصدعا في الأبنية الحاكمة، وهشاشة في صيغ التوافق الأهلي، إلى حد أن يظل لبنان لأكثر من سنتين بلا رئيس، وتدخل أطراف رسمية طائفية في العراق في حرب مكشوفة على مدنيين من العرب السُّنة يراد لهم أن يدفعوا ثمن ماض لم يختاروه، أو ربما لأنهم لم يرددوا مع دريد لحام للمرشد خامنئي: "في عينيك الأمل". ولا أدري أي أمل في عينين لا تريان إلا جنودا مدججين بالسلاح يرسلون إلى بلد الفنان، الذي كان "كبيرا"، والبلدين الجارين لاستئصال مكون اجتماعي دون سواه! إنه عوار الطائفية الذي يصعب أن يلتمس حياة ممكنة في تغليب المشتركات وإعلاء العدل فوق الانتماء. إذ الأخير قوته لا تقاس بعدد ضحاياه أو الناظمين لسيادته هجائيات "كلثومية"، بل في مواجهته أسئلة الراهن والمستقبل بإجابات ربيعها في عمارة الأرض المتسعة للجميع.