عواصف عديدة تلقتها الجماعة الحركية -الإخوان المسلمون- على مدى عمرها الذي تجاوز 88 عاما. فمنذ نشأتها سنة1928? ? والصفعات تتوالى بقدر الكوارث التي تجلبها هي للأمة الإسلامية. لم يبعد النجعة من قال إن الإخوان المسلمين هم أصل البلاء.

حديث الساعة الآن عن التحول الجذري في سياسة فرعها الإخواني في تونس بزعامة راشد الغنوشي المنفي عنها لأكثر من عقدين من الزمن والعائد لها 2011 أثناء الثورة التونسية. أعلن الغنوشي عن فصل النشاط الديني عن النشاط السياسي في حركته -حزب النهضة التونسي. وسواء كان هذا التوجه الجديد من الغنوشي يعبر عن حنكة حقيقية أو مراوغة، فهي بلا شك صفعة جديدة للتنظيم الإخواني الذي يُعد راشد كبير الراشدين فيه، وأحد المفكرين المؤثرين على مستوى العالم الإسلامي.

قرأت، كغيري، رسالة مسربة من الغنوشي كشفتها صحيفة الحياة الجديدة موجهة لقادة الإخوان في اجتماعهم المنعقد في إسطنبول بعنوان "شكراً تركيا"! والذي لم يحضره راشد. مطلع الرسالة مهم وخطير، يقول فيه: "لا أسباب صحية ولا غيرها حالت دون حضوري ولكنني أرى يوما بعد يوم أن لحظة الافتراق بيني وبينكم قد اقتربت، أنا مسلم تونسي، تونس هي وطني، وأنا مؤمن بأن الوطنية مهمة وأساسية ومفصلية فلن أسمح لأي كان أن يجردني من تونسيتي، لن أقبل أي عدوان على تونس حتى لو كان من أصحاب الرسالة الواحدة".

الافتتاحية تكشف حقيقة الفراق والانشقاق عن الجماعة، وتكمن الخطورة في العبارات المذكورة في هذا الشق من الخطاب، التي تؤكد حقيقة نهج الجماعة في "الأممية" وعدم الاعتراف بالوطنية والتجرد منها. هذا المنهج معروف عن الجماعة وهو من أدبيات التيارات الإسلامية عموما غير أنه يصدر هنا، تصريحا، من قامة قيادية كالغنوشي مذيلاً بجملة تُظهر أنه من الطبيعي قبول الفرد الإخواني العدوان على وطنه لمصلحة "أصحاب الرسالة"! والذي لن يقبله حالياً المواطن التونسي "المخلص" راشد الغنوشي.

يضيف الغنوشي أيضا في رسالته مخاطباً الإخوان: "أنا وبالفم الملآن أعلن لكم أن طريقكم خاطئ وجلب الويلات على كل المنطقة.. لقد تعاميتم عن الواقع وبنيتم الأحلام والأوهام وأسقطتم من حساباتكم الشعوب وقدراتها، لقد حذرتكم في مصر وسورية واليمن ولكن لا حياة لمن تنادي، أنا الآن جندي للدفاع عن أراضي تونس ولن أسمح للإرهاب مهما كان عنوانه أن يستهدف وطني".

صحيح أن مكتب حزب النهضة نفى صحة هذه الرسالة غير أن كثيرا من التقارير أكدت صحتها. وعلى فرض صحة الرسالة، يبقى السؤال هنا، هل هذا التحول حقيقي أم أنه مجرد مراوغة و"تقية سياسية"؟ هل هذا الانشقاق ناشئ عن قناعة وتشبع من سياسة الإخوان أم مجرد تسويق شخصي للغنوشي وحزبه؟ على كل الأحوال، فالمؤكد هو وجود تحول تاريخي في سياسة حزب النهضة التونسي بقيادة الدكتور راشد الذي رأى أن النهج الوطني الديموقراطي هو المخلص بدلاً من شعار "الحاكمية" الإخواني الذي فشلت سياسته طوال الـ88 عاماً ولم تولّد إلا النكبات وتفريخ الجماعات المتطرفة كالقاعدة وداعش وبوكو حرام وأضرابها.

لن ننسى للغنوشي مواقفه ضد بلادنا وعلاقته المتينة بإيران. فقد اعترض على تصنيف "حزب الله" بالإرهابي ثم عاد محاولا تصحيح موقفه المتأرجح بين "ولاية الفقيه" والشعوب العربية التي أغضبها موقف الغنوشي من حزب الله.

وفي تسجيل نشرته العربية يقول الغنوشي، إبان ظهور فوضى الربيع العربي: "اليوم، هناك في العالم العربي ثورات نجحت وثورات أخرى في طريقها للنجاح. اليوم تقريبا، الجمهوريات توشك أن تنتهي ويبدأ دور الملكيات السنة القادمة"، يقصد 2012.?? ثم يعود كالعادة ينفي ما قاله رغم التسجيل الموثق بصوته.

وعلى الرغم من أن الغنوشي لا يمثل الحكومة التونسية وليس له أي منصب في الدولة، إلا أن القيادات الإيرانية تحرص على الالتقاء به خلال الزيارات الرسمية لتونس، ومنها لقاؤه بوزير الخارجية الإيراني في أغسطس 2015 في منزل السفير الإيراني بتونس. وفي فبراير من هذا العام شارك السفارة الإيرانية في تونس احتفالها بمناسبة عيد الثورة الإيراني! وقد تلقى دعوة مؤخرا من علي خامنئي لزيارة طهران. وفي أحد تصريحاته أثناء استقباله للسفير الإيراني عام 2012 في تونس يقول: "إن الإمام الخميني أحد أكبر المصلحين في التاريخ المعاصر، والثورة الإسلامية الإيرانية شقت طريقها بقوة تحت زعامة قائد الثورة آية الله على خامنئي".

أخيراً، ربما يشهد حزب النهضة التونسي تحولاً جذرياً جديداً بعد السقوط المريع للإخوان في مصر، وما ترتب عليه من قناعة عالمية واسعة بفشل الجماعة في الحكم، وقد يقدم الغنوشي نموذجاً مختلفاً للحركات الإسلامية تنصهر في الديموقراطية والمجتمع المدني، إلا أن أصواتاً أخرى تؤكد أن ما حصل مجرد تغيير جلد مؤقت لتحقيق مكاسب معينة ثم ما تلبث أن تعود "حليمة لعادتها القديمة".