منذ السنة الثالثة لي على صفحات الرأي بصحيفة "الوطن"، وأنا أعكف على كتابة أوراق خاصة عما سُمي بالصحوة وفترتها وما صاحبها، كمعاصر عاش تفاصيل تلك المرحلة من التحول الفكري الاجتماعي.

أكتب عن الصحوة في الوقت الذي أعكف فيه على تأليف كتاب عما فعلته في محيطي الاجتماعي، وقريتي ومدينتي وأصدقائي وعائلتي وكل ما كان قريبا مني، ذلك أنني أدين بالفضل على نحو ما لبعض الظروف والأشخاص الذين كانت لهم أفضال في عدم انجراف مجموعة جيدة من الشارع لفكر الصحوة.

فقد أدرك أولئك الأشخاص على نحو ما أن هناك ما يخالف الطبيعة الاجتماعية والفكرية، ورأوا أن ينأوا بأنفسهم والقريبين منهم عن تلك التحولات الغريبة.

وأدركوا أن الخطاب الجديد ليس خطاب التسامح الدعوي، بقدر ما هو خطاب مهووس بأمر آخر لم يكن مفهوما يومها بالشكل الكامل.

إذ اجتر الخطاب الصحوي تاريخ خطابة الموالي الشهيرة، التي سيطرت على حقبة زمنية من التاريخ الإسلامي، وقررت فيه أحيانا نصوص مقولبة، عبر تفريغ النصوص واجتزائها وقهرها، والاستناد إلى الديباجات التي تسبق أو تعقب الخطب المنبرية، في مواطن لا تحتملها لا عمق النصوص ولا فلسفتها ولا حتى روحها. حتى ظنها من أتى بعدهم ذات أهمية دينية، ترتب عليها منحها شيئا من القداسة عند من أتى بعدهم، ليمتد الأمر كذلك في تصوير كامل ومدهش لكرة الثلج.

لم تكن الصحوة لتنجح في اجتذاب الأعداد الكبيرة من الشارع، لولا استخدامها الخطاب البسيط المليء بالعبارة الدينية، وهو يعلم تماما أن الشارع بطبعه متدين، وألفاظه وعباراته الدينية كثيرة ولا تكاد تغيب عن أية محادثة عابرة بين اثنين.

لكن الصحوة حاولت من خلال خطابها ذاك أن تقبض على عواطف الشارع من خلال إلغاء عقله، ففي الوقت الذي يفكر فيه العقل البشري عبر العالم في المستقبل وكيفية التعامل مع ثقافته وأخلاقياته، يغرق العقل الصحوي في التفكير في الماضي ويكرس كل وقته في الاندماج معه.

وهي نقطة تصل في الغالب بصاحبها إلى مرحلة من اليقين بالأشياء كمسلمات، نتيجة الضغط الذي تمارسه على العقل وتشل حركته، وكلما كان التركيز عاليا في الهدف الذي نفكر فيه ازداد الإحساس بصدقيته، وهي الطريقة التي اتخذها الدعاة الصحويون لتحقيق هدف الاستحواذ على الأفراد الذين رأت فيهم النوعية داخل المجتمعات.

غير أن الصحوي يعيش حالات متعددة من المتناقضات، أوضحها استخدامه كل اختراعات وآلات الغرب تقريبا، وفي الوقت ذاته محاربته لهم وسعيه الحثيث إلى تدمير ثقافتهم التي أنتجت ما بين يديه، وهي حالة متقدمة من الانفصام يعرفها أهل علم النفس.

وهذا يعود إلى أن الصحوة كانت أنانية في فكرها، تمثل واقع التفكير الدائري الذي يقتنع بالاستنتاجات والتفاسير النقلية التي لا تعتمد البراهين المعتمدة على الاستقراء العميق للحدث أو المنقول، في حالة اجترار رهيبة للماضي بكل ما فيه من غث وسمين.

وعقل الصحوي شبيه إلى حد كبير بالمستودع المليء بالأشياء والبضاعة القديمة، التالف بعضها، لكنه غير قادر على التخلص منها نتيجة تعنت المشرف على ذلك المستودع.

وهو نفس الوضع الذي يعيشه العقل الداعشي بتفاصيله الدقيقة، غير أن الأخير انتقل إلى مرحلة التحكم الكامل، التي أتيحت له فيها كامل الحرية للتصرف واتخاذ القرارات، فأعاد الماضي بتفاصيله في الحاضر الذي يرفض كثيرا من معتقدات ذلك الماضي.

فالعقل الداعشي في الواقع هو نفسه العقل الصحوي الذي كان يشعر بمحدودية حركته في السابق، وضرورة مراعاة العصا السياسية التي يمكن أن تقمعه في أية لحظة، وتهدم مشروعه الكبير على الرغم من تحالفهما البراجماتي على نحو ما.

وقد عبر عن نفسه للعالم ببشاعة عندما أطلق له العنان، ووجد نفسه صاحب الرأي والقرار، فالعقل الداعشي هو ترجمة حرفية للعقل الصحوي الذي كان يختبئ خلف ستار عريض من الدين والأخلاقيات والمثل العليا للإنسانية.

الصحوي والداعشي يعتقدان بوصايتهما الكلية على العالم من أقصاه شرقا إلى أقصاه غربا، بينما لا يقدمان له أكثر من التحجيم والرجعية، وهما أكبر المآسي والمشكلات.