ويعود رمضان ضيفنا العزيز يحمل صندوق الذكريات، لنفتح في حضرته كل عام ونبحث عن صور وأحداث وأشخاص أقفلوا الأبواب خلفهم ورحلوا بعيدا، إما طواعية وبلؤم الأشخاص الذين يبحثون عن أشباههم ليبدؤوا معهم في صنع أكاذيب لا تصدق أبدا، أو دون اختيار، فقط لأن مؤشر العد التنازلي لأعمارهم قد تعطل فهرولت نهاياتهم دون وداع، وبذلك تضمن أن نسيانها صعب، بل يرافقها الوجع كلما حلت مواسم الحضور السريع والذي تهطل فيه لبرهة ثم تغادر هي الأخرى ومعها ذكريات وأحداث تحتفظ بها حتى يحين موعد اللقاء، وشهر رمضان على روحانيته ونقاء النفوس فيه إلا أن أيامه ولياليه تحتشد بالأحداث، بعضها عابر ويموت في اللحظة وبعضها لا يشيخ أبدا، يطل علينا كالأقدار التي لا نستطيع الهرب منها.
لا ننفي البهجة هنا بقدوم الشهر وحتى كونه محط الذكريات فهذا من تفرده عن باقي الشهور بالخلود، لأن البقية تمضي بهدوء لا يشوبه إلا وقع خطاها وهي تهرول طاوية أيامها من أعمارنا التي لا تصنع شيئا سوى التحسر على عجلة الزمن التي تدور بها سريعا، والخوف أن تحجز لها مكانا في ذاكرة الشهور في وقت قريب وهي خاوية الوفاض، فالتكسب لم يحن بعد أو حان وهي لم تنتبه، انشغلت بفكرة حجز مكان بارز بين الجموع وليس مهماً ما تشغل المكان به، البروز هو القضية وليس غيره.
نستعد كثيرا لهذا الضيف حتى بالنوم واليقظة، والأكل والشرب ومشاهدة التلفاز تتضاعف، وكأننا نريد أن ننشغل عن إدراك وجوده، ولم نتساءل عن الدافع لذلك هل هي مشقة صيامه أم روحانيته العالية التي ترهف الإحساس وتعمق العلاقة بين الروح والجسد فتنكشف الكثير من العيوب التي لا نعترف لأنفسنا بفعلها؟ نكابر دوما وندعي المثالية وعند المحك تسقط الكثير من الخفايا، شأنها شأن الذكريات المطمورة، لكنها تظل البغيضة والمرتبطة بما تتركه من انطباع لدى من عرفها عنا وحتى وإن كانت بسيطة وغير ملاحظة إلا أننا نخاف من رمضان وغيره أن يكشفها، يردد البعض أنه تزكية وطهارة للنفس ولكن هل فعلا نصل إلى تلك الدرجة من الشفافية والنقاء؟ أم نظل نرقب في حضوره ذاكرتنا المليئة بالخيبة والفقد وننشغل بالتحسر عليها دون أن نصنع من لحظاته النورانية مسارات عامرة بالبهجة تغير وجه ذاكرتنا الحزينة.