شأن العبادات في الإسلام عجيب وفريد؛ فهي ليست طقوسا، ولا أوضاعا جسدانيّة مجرّدة مما يؤثّر في باطن الإنسان وسلوكه وتصرفاته. ولو أن أحدهم قضى وقتا من عمره يتأمل في أثر العبادات في تهذيب النفوس لما كان وقته ضائعا، ولقد تجد في كتب التراث تأملات ولفتات مدهشة في هذه العبادات التي شرعها رب العباد العليم الخبير، تلك اللفتات المدهشة استأثر بها أهل التصوّف السنّي المتقدمون والمتأخرون، فقد بوبوا الأبواب في كل عبادة على حدة، وما تقتضيه من فعل الباطن، وما يلزم السالك إلى الله أن يأخذ به فيها من الآداب.
قرأت مرة للعقّاد –رحمه الله– اعتراضَه على أن الحكمة من الصوم أن يتذكر الأغنياءُ الفقراء ويشعروا بهم؛ ذاك أن الفقراء أيضًا يصومون ويجوعون، فمن الذي يتذكرونه في هذه الحالة ويشعرون به؟ وكان جوابه – كما أذكر– أن من مقاصد العبادات العظيمة تقوية الإرادة، إرادة المؤمنين، تعاليهم على الاعتياد، وتساميهم عن حاجات الأجساد، وتربيتهم على الصبر، وتدريبهم على الاستغناء والامتناع عن شهوات النفوس.
مع الأسف، نسيت أين قال العقاد هذا، وإلا أتيت بنصه وفصّه؛ فعبارته أدق بكثير دلالةً على المعنى الذي يريده.
في كل موسم رمضاني يتكلم الخطباء عن هذا الإقبال الشديد على الطعام والشراب، كأن أمعاءنا تخلو منه طوال السنة، أو كأننا نجوع طوال السنة لنملأ بطوننا من الطعام في رمضان! لا أظن الحديث في هذا إلا من تكرار ما هو مكرر، وإعادة ما هو معاد، وأكل ما هو ممضوغ سلفًا!
لكنّ ما لا أبالي بتكراره وإعادته، وتأكيده والفتل فيه؛ أثر الصوم في أخلاق الصائمين، فالقرآن الكريم يربط في مواطن كثيرة بين العبادات والتقوى، والتقوى -كما عرّفها معالي الشيخ صالح الحصيّن يرحمه الله- درجة من الحساسيّة الأخلاقيّة. وهو تعريف نادر من الشيخ يدلّ على ذوق ودقة ومعرفة.
يقول سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن أثر الصلاة: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، ويقول عن أثر الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، أي -بحسب تعريف الشيخ الحصيّن-: لعلكم تحققون تلك الدرجة من الحساسية الأخلاقية، ويقول سبحانه عن أثر الحج: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ}.
هكذا يربط القرآن بين أركان الإسلام التي هي عبادات ونسك وبين الأخلاق، فهي متلازمة تلازمًا، وحين تكون العبادات مفرغة من تلك المعاني الأخلاقية فلا قيمة لها، وقد وردت أحاديث كثيرة تربط الإيمان والعبادات بالأخلاق، ففي الحديث أنه ذكرت عند رسول الله امرأة تكثر من الصيام والصلاة وقراءة القرآن والعبادات غير أنها تؤذي جيرانَها فقال: هي في النار! عياذا بالله من هذا.
وأحاديث أخرى تربط بين الإيمان وإكرام الضيف، وبين الإيمان وكف الأذى، وبين الإيمان وإماطة الأذى عن الطريق، وبين الإيمان والأمانة، وبين الإيمان والصدق، وبين الإيمان والعدل، ولو تتبعنا النصوص الشرعية الواردة في هذا لطال بنا المقام جدًا.
ما معنى أن أصوم إذن وأنا أتتبع عورات الآخرين؟ ما معنى أن أصوم وأنا أؤذي جيراني؟ ما معنى أن أصوم وأنا أستعلي على عباد الله وأظلمهم؟ ما معنى أن أمتنع عن الطعام والشراب ولكنّ قلبي لا يمتنع عن الحقد والكراهية والحسد والعجب؟
عفوًا، لستُ أنا من الوعظ في شيء، غير أني أنظر حولي فأجد أن حال المجتمعات العربية ليس – على العموم – بخير، ولعلك توافقني أخي القارئ في ما أقول، وإقامة الدلالة على هذا هو من قبيل طلب الدليل على النهار، وليس ما أقوله من باب (من قال هلك المسلمون فهو أهلكهم).
كيف نحقق أثر العبادات في حياتنا ابتداء من الصلاة فما بعدها؟ هذا سؤال كبير، وأكبر منه: كيف نحيا بالإسلام حقا؟ وكيف نكون مؤمنين حقًا حتى يتحقق الوعد الإلهي (فلنحيينه حياة طيبة)؟ كيف نحيا (بشهود) العبادات حقا؟ ولماذا لا تؤثر تلك العبادات في أخلاقنا على الوجه الذي يرضي الله؟ وكيف نجعل رمضان فرصة حقيقية لمراجعة النفس، ومنطلقًا لتغيير حقيقي في أنفسنا ومجتمعنا؟
يتكرر رمضان كل عام، وحالنا كما هو، فأين الخلل يا ترى؟ وما المشكلة؟ إني أظنّ أن هناك مشكلة كبرى في فهم الإسلام، شغلنا طويلاً بأحكام الفقه، ما حكم تشقير الحواجب، ولبس البنطال، وإطالة الأظفار، وغفلنا عن الجانب الروحيّ في الإسلام، وعن عبادات القلوب، وتزكية النفوس التي هي مقصد من أعظم مقاصد إرسال الرسل، والتي استحوذت على معظم آي القرآن الكريم.
وإني واثق كل الثقة أن أحوالنا ستكون أفضل حين نعنى بهذه الجوانب، جوانب معاملة القلوب لرب القلوب، وحين نحقق التقوى في حياتنا، التقوى التي تجنبنا التظالم والتحاسد والتباغض والتعالي والعنصرية والطائفية والاقتتال، والله هو المسؤول أن يعيننا على سلوك طريقها (وعلى الله قصد السبيل).