الإنسان كائن اجتماعي مرتبط بشبكة علاقات ضرورية مع الآخرين تنتج عنها واجبات تجاه الآخرين وحقوق للذات. المسؤولية بالمعنى الأخلاقي هي ربط للفرد بهذه المنظومة من الحقوق والواجبات. هذا الربط يترتب عليه الثناء حين نلتزم بتلك الحقوق والواجبات واللوم حين نقوم بالعكس. نعلم مثلا أن الإنسان يفترض أن يتحمل مسؤولية تصرفاته مع الآخرين، فحين يخلف موعدا ضربه لهم فهو يستحق اللوم وحين يفي بذلك الوعد فهو يستحق الثناء. الفرد هنا مسؤول مسؤولية شخصية عن الوفاء بمواعيده. موضوع المسؤولية الأخلاقية موضوع فلسفي مهم سأحاول في هذه المقالة التفكير في جانب من جوانبه يسعى للتفريق بين: المسؤولية تجاه الآخر والمسؤولية عن الآخر. الفكرة هنا أن هناك مستوى أعمق من المسؤولية الأخلاقية قد لا نجده في التفكير السائد عن المسؤولية الأخلاقية القريب جدا من المعنى القانوني: مسؤولية الفرد عن تصرفاته التي تؤثر على الآخرين. هذا الفرق يفترض أن يكشف عن طبيعة أساسية في المسؤولية الأخلاقية وهي أنها مسؤولية لا منتهية وأنها تغادر الحسبة الذاتية للعالم والآخرين. سأحاول إذن في هذا المقال التفريق بين مستويين من المسؤولية الأخلاقية أملا في الوصول إلى صورة أوضح لوجود الآخر في أفق الذات الأخلاقي.

المستوى الأول هو المسؤولية تجاه الآخر أو المسؤولية تجاه أفعالنا المؤثرة على الآخر. هنا المسؤولية تعني أن تتحمل عواقب فعلك. مثلا في حوادث السيارات يتحمل المخطئ مهمة دفع مصاريف إصلاح الأضرار التي لحقت بذات أو بسيارة الآخر. هذه المسؤولية مرتبطه بشكل كبير بالنوايا والأهداف. مثلا القتل العمد تترتب عليه مسؤوليات أكبر بكثير من المسؤوليات التي تترتب على القتل الخطأ رغم أن نتيجة العمل واحدة. هذه المسؤوليات تتأثر كثيرا بالتصورات الثقافية والقانونية في المجتمع. مثلا في فترة معينة كان التدخين في الأماكن المغلقة عمل لا تترتب عليه عقوبات. اليوم في أغلب مدن العالم هذا العمل يعتبر خرقا للقانون وتتم المحاسبة عليه. هذا التغيير القانوني ترتب عليه كذلك ارتفاعا في الإحساس الاجتماعي بخطأ التدخين في الأماكن المغلقة فيما كان مقبولا أو على الأقل متسامحا معه في السابق. المسؤولية هنا لا تزال مربوطة بالذات والآخر موضوعا لها. بمعنى أننا إذا فهمنا أن تصرفات الإنسان هي امتداد لذاته فإن هذه المسؤولية لا تغادر الدائرة الذاتية. بكل تأكيد هذه المسؤولية مبنية على إدراك قيمة الوجود مع الآخر ومعنى هذا الوجود لكن وجود الآخر هنا يحضر بقدر اتصاله بالذات لا خارجها. سيكون من الصعب تأسيس معاني للمسؤولية الأخلاقية في هذا الفهم خارج دائرة الذات وامتدادات آثارها. النتائج الواقعية لهذا الفهم أن الإنسان يمكن أن يحصر مسؤولياته في حدود ضيقة ويتخلى عن المسؤوليات خارج هذه الدائرة. في كثير من الأحيان يتم اللجوء لهذا المعنى للمسؤولية الأخلاقية لتخفيف إحساس الإنسان بالذنب تجاه الكثير مما يجري حوله من كوارث تحل بالآخرين.

الأفق الآخر للمسؤولية الأخلاقية هو المسؤولية عن الآخر وليس فقط المسؤولية تجاه الآخر. هذا الأفق يشمل المستوى السابق ويتجاوزه ليصل بالمسؤولية الأخلاقية لحدود غير منتهية. هذه المسؤولية تنطلق من الشعور الحقيقي بالتعاطف بين كائنات لا يعرفون بعضهم على المستوى الشخصي ولم يكن هناك اتصال بين تصرفاتهم. هذا الشعور تجده بوضوح حين تلتقي متسولا أو مريضا لا تعرفه وربما ينتمي لبلد آخر غير بلدك ورغم ذلك تشعر بالمسؤولية عنه وبضغط داخلي بمسؤوليتك عن مساعدته. هذا الشعور يظهر بوضوح في قناعتك بأنك يجب أن تساعد هذا الكائن بقدر استطاعتك. قد لا تفعل شيئا للمساعدة ولكنك ستبرر لنفسك كثيرا وتحاول إيجاد الأعذار لعدم قيامك بمساعدته. مثلا ستقول لن أساعد هذا المتسول لأن كثيرا من المتسولين يستخدمون المال الذي يجمعونه في شراء المخدرات. بغض النظر عن صحة هذا التبرير إلا أن ما تحاول القيام به هنا هو إيجاد مخرج من المسؤولية الأخلاقية التي شعرت بها عن حال ذلك الإنسان. نعلم هنا أنه لا توجد مسؤولية بالمعنى الأول تجاه المتسول، ولكننا نعلم كذلك أن في داخلنا شعور بالمسؤولية لا يزال يتحرك. “الرحمة” هي إحدى التعبيرات عن هذه المسؤولية. الإنسان الرحيم لا يحسب مسؤولياته تجاه الآخرين بحسابات تأثير تصرفاته. على العكس نجد أن مسؤولياته تمتد لمساحات لا منتهية تشمل آخرين لا يعرفهم ولم يتصل بهم أبدا. هذه المسؤولية لا منتهية حتى وإن علمنا أن ما نستطيع فعله محدود بحدود القدرة. نجد عند الرحماء هذا الشعور المستمر بالتقصير والرغبة بفعل المزيد باستمرار.

الفرق بين الأفقين السابقين مهم، خصوصا حين نفكر في السياقات القانونية للمسؤوليات. كمجتمعات لا بد من تأسيس وتعزيز المستوى الأول من المسؤولية الأخلاقية والمتعلق بنتائج تصرفاتنا تجاه الآخرين. هذا المستوى مهم للصياغات القانونية والعمل في المؤسسات الاجتماعية لكن لا بد من الاهتمام كذلك بالمستوى الآخر والذي يمكن اعتباره الضمير الأخلاقي. الضمير الذي يدلنا باستمرار على وجهة الحركة حين تحير بنا خطانا. الضمير الأخلاقي هنا هو طاقة بصيرة لتعميق وتطوير تصوراتنا للمسؤوليات الأخلاقية. هذه الطاقة تدفعنا باستمرار باتجاه الآخر خارج حساباتنا الذاتية. طاقة للخروج من التصورات الأنانية للحياة والآخرين. عجزنا عن وضع أعيننا في عين المتسول والمحتاج حين نرفض طلباتهم وشعورنا بحقهم علينا هو حالة أمل وتفاؤل بأن هناك ما يجمعنا رغم تصاعد أسباب فرقتنا.