يقول ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب (الاستغاثة): "ولهذا كنت أقول للجهميّة والنفاة الذين نفوا أن يكون الله فوق العرش لمّا وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهّال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم".
بغض النظر عن مدى صحة الرأي الذي كان يتبناه ابن تيمية في هذا الكتاب، إلا أن هذا من النصوص التي يمكن بواسطتها تبيّن طريقة الرجل في الاحتراز من التكفير، وهي طريقة مغايرة لأسلوب كثير من التيارات المعاصرة التي ترفع شعار امتدادها الفكري عن ابن تيمية.
فهو رغم الوثوقية الظاهرة في لغته، إلا أنه يكشف على الأقل عن وعي يحمله بالمسافة بين إقامة الحجّة ومجرد التعريف بها دون إدانة يقتضيها ذلك التعريف.
يخبر ابن تيمية بخطاب لأطياف من العلماء والقضاة والأمراء، لا مجرّد أناس من العامّة والبسطاء، كما يخبر بأنه كان مجتهدا معهم في بيان ما يرى أنه الحق كتابة وشفاهة، ولكنه رغم ذلك يرى لهم العذر بالجهل. فالجهل عنده لا ينتفي بمعرفة حجج الخصم، بل بتعقّلها والاقتناع بها.
إذن فمعيار كفر المرء عند ابن تيمية أمر متعلق بنيّته لا بلغته، حيث لا يمكن القول بكفر من لا يعي كفره مهما ذهب به رأيه، وبما أن النية أمر باطني يستحيل الاستدلال عليه فالمسافة بين تكفير الفعل وتكفير العين شاسعة جدا بالنسبة إليه.
إن موقف ابن تيمية هذا أكثر منطقية من موقف كثيرين من المتأخرين الزاعمين صدورهم عنه. وأكثر اتساقا مع مفهوم الدين القائم على الإيمان برب يعلم علانية العبد وسره، ومعادٍ يحاسب فيه الإنسان على نيّته وعمله.
(النسق الديني) يختلف طبيعة وحكما عن (النسق القانوني)، إذ يصح في هذا الأخير قيام الحجّة بالمعرفة دون الاقتناع، وذلك لأن التعاقد فيه محصور في المستوى البشري، حيث لا إمكانية للتعاطي مع النوايا أو التعامل مع تقلباتها. لذلك فإن إعلان أي مؤسسة حكومية أو شركة تجارية للائحتها وإتاحتها للمتعاملين معها يقيم الحجّة عليهم بشكل ضمني، مع أن هناك بعض الجهات القانونية التي تعمل بإجراءات احترازية تحصل بها على إقرار بالمعرفة وليس بالاقتناع.
ولكن الأمر في (النسق الديني) مختلف، فالتعامل فيه بين العبد وربه بالدرجة الأولى، وما ينجي العبد أو يهلكه هو ما يدين به حقا وصدقا تجاه الله، فمناط الأمر قلبيّ، إذ ليس المؤمن من كان كلّ ما يعتقده صحيحا، بل المؤمن الكامل من كان صادقا في كل ما يعتقده.
وابن تيمية رغم حدّة لغته كان واعيا تماما بهذا على ما يبدو، حيث من الممكن فهم هذا على سبيل المثال من قوله في الفتاوى: "ومن أهل البدع من يكون فيه إيمان باطنا وظاهرا، لكنّ فيه جهل وظلم حتى أخطأ ما أخطأ من السنّة، فهذا ليس بكافر ولا منافق، ثم قد يكون منه عدوان وظلم يكون به فاسقا أو عاصيا، وقد يكون مخطئا متأولا مغفورا له خطؤه، وقد يكون مع ذلك معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه".
يتجاهل كثير من أفراد التيارات السلفية المتأخرة -مع الأسف- فكرة الاقتناع والإقناع، ويظن بعضهم أن إقامة الحجّة تحصل بمجرد الإخبار الذي لا يلبث أن ينتقلوا بعده إلى التكفير العيني والانسياق بعد ذلك إلى كل ما يجره الحكم بالتكفير من هدر واستباحة، وهذا في نظري هبوط بالنسق الديني إلى النسق القانوني، ولا يكون هذا إلا بتجاهل الفرق الهائل بين علم البشر وقدرتهم وعلم الإله وقدرته.
ربما في هذا مؤشر على نزعة مادية كامنة لدى بعضهم يتعجل بها حصول فردوسه على الأرض دون ابتلاء معايشة الناس والتدافع معهم في مستوى واحد من العبادية لله.
لعل من المهم أن أختم بفكرة متعلقة بمفهوم الاقتناع وهو أن كثيرا من الناس يقتنعون بجدوى الأفكار برؤيتهم لثمراتها على معتنقيها، ولهذا صلة بمفهوم القدوة وأثرها على الإنسان. وبما أنه من الصعب اقتناع الآخرين بفكر يرون ثمرته في المبادرة إلى تكفيرهم دون فهم وظلمهم دون علم، فلا يبعد أن يكون هذا ممّا يقيم الحجة لهم لا عليهم عند تحقّق الأمر.