هل ودعناه بما يستحق من وداع، وعملنا فيه فأتقنا العمل، أم جعلنا منه زائرا لا نعبأ بزيارته، إذ نتطلع لإزجائه، والخلوص إلى ما بعده، وكأننا لا نعلم أن رحيله يستصحب معه أجزاء من كياننا الجسدي والنفسي استصحابا لأوبة وراءه، فتغافلنا عن الاستفادة منه قبل أن يتوارى في غمرة رحيله الأبدي، الآخذ في ركابه بأجزاء من مشاعل طاقاتنا، التي أجلنا توظيفها خلال مرحلة من مراحل الزمن أهدرناه فيها، لنجدها وقد رحلت رحيلا تتقاصر دونه بوادي الهمم ونواصي العزائم، فما نلبث بعد يقظة مؤقتة تشير إلى ذلك الهدر، حتى نعود مجددا إلى مسارب الغفلة، وكأننا لم نعش التجربة ونستخلص منها العبرة، ليتهمنا ذلك الوداع من جديد دون أن نعي جدية الموقف وحتمية الرحيل.
فكل رصيد يمتلكه الإنسان يحتمل الزيادة والنقصان، عدا رصيد الزمن، فإنه يحتمل النقصان فقط، فهو آخذ في التناقص موغل في الجدية، مقابل عدم المبالاة بتناقصه، ليفرض علينا الواقع سؤاله المنطقي: متى نجعل من هذا الرصيد المتناقص وسيلة إلى زيادة أرصدتنا القابلة للزيادة؟ ومتى ننفذ من محدودية النظرية إلى سعة العمل، وهل الأدوات المجيبة لمثل هذا السؤال يمكنها الاقتباس من الصيغة المعرفية لقيمة الوقت، وإعطائها الأولوية واستثمارها بما يحقق الفائدة، وفق آليات عمل مرتّبة؛ تآزرها إدارة سليمة، تنظم الوقت، وتستوعب أهميته، وتثريه بالعمل المنتج؟
فالإنسان يطرب لسماع النظرية، وقد ينكل عن تطبيقها، حتى إنه يبحث عن الوسائل التي تجلّي النظرية بشكل أوضح، ليقابلها بحسن الاستماع، إلا أنه يتهادى أمام إرادة التنفيذ، متذرعا بالتأجيل والتعليل، لتستمر وتيرة الوداع الزمني أمام جهوده المثقلة بأغلال التأجيل ومسوغات التعليل، حتى يفيق على وقع الصدمة وصخب الفقد، أمام عمر أزف ربيعه، وتقادمت أيامه، وتكدست أمانيه في قائمة الانتظار، حتى اعتم بهاؤها، وجف رواؤها، وحال دون الوصول إليها التفريط في التنفيذ، والإفراط في الزمن.
ثم إن معرفة قيمة الوقت واستتباعها بالعمل لا تصح أن تكون خبطا في بيداء، دون استيضاح السبيل، والاهتداء بالدليل، فذلك يجلب من الإحباط بعد استجلاء النتائج، ما يرد الإنسان إلى معاهده الأوَل من تفريط وإفراط، حالما يقف على ثمرات متواضعة من النتائج، إزاء جهود مضاعفة، دون أن يعي حقيقة التنظيم القائمة على ثلاثة مرتكزات: الهدف، الخطة، والتنفيذ، مع ما يدخل في تفاصيلها من تفريعات حيوية، تحقق خلوص الثمرة، وملاءمة النتائج لحجم الجهود المبذولة، مما يشكل حافزا ذاتيا مرده إلى حصول النجاح، حيث لا يتأتى النجاح المطلوب بغير إدراك قيمة الوقت من خلال تنظيمه، وصيانته من التبدد، وحمايته من استنزاف ملهيات الحياة، والانزلاق في هوامشها.